نيكانور بارّا.. الشاعر الذي يخرِّبُ بشعره الأكاذيب
طالب عبد العزيز
منذ أن بدأ الشاعرُ حيدر الكعبي رحلته خارج العراق مطلع تسعينيات القرن الماضي وهو يؤكد جهدَه الثقافيّ، دراسةً ونتاجاً وحضوراً، بالإضافة إلى توثيقه الأهم لأعمال الشعراء والكتاب الذين أعدموا أو غيِّبوا في زمن النظام السابق، الذين أصدر أعمالهم، في شبه انطلوجيا، أو كتاب مشترك. لكن جهده الأكبر إنصبُّ في الترجمة، فترجمته لبعض أعمال البرتغالي بيسوا والشاعر والكاتب التشيلي نيكانور بارّا( 1914 - 2018) بخاصة، عمل استثنائي، وجهد ترجميٌّ دلنا فيه على تجربة شاعرٍ كبير، في الأدب اللاتيني، لم يُنقل من قصائدِه وكتبِه الأخرى إلى العربية إلا القليل.
فقد أحاطنا علماً بواحدة من المشاريع الشعريَّة المختلفة، ومنحنا فرصة معاينة شاعرٍ اختلفت الآراءُ في أهميته، كان شاهداً على تحولات سياسية وثقافية كبيرة، سمّي «برائد الشعر المضاد، والشاعر الذي يخرِّبُ بشعره الاكاذيب». عاش قرنا كاملاً، وزاده بسنوات ثلاث، تنقل خلالها في بلدان كثيرة، والتقى شخصيات ثقافية وسياسية، وعاصر تجارب شعرية، لا حصر لها، في بلاده والبلدان التي زارها، أو التي أقام فيها. حيدر الكعبي أحبَّ نيكانور بارّا، فترجمه لنا.
ولكي نفهم سعيَ بعض المترجمين في الترجمة وعمل النقاد في النقد نرى بأنَّ ذائقة المترجم لا تختلف عن ذائقة الناقد، إذْ، كلاهما يعملُ وفق قاعدة الحبِّ والرغبة. حبّ الكتاب والرغبة في ترجمته ونقده. هناك كتاب يحبّه المترجم، لأنه لامس شيئاً في روحه، فذهب إلى ترجمته، ونقله إلى لغة قومه، ويفعل الناقدُ ذاتَ الشيء، في علاقته مع الكتب التي أحبَّها، وأعتقد بأهمية تناولها في النقد، وضرورة وجودها في الدرس النقدي، أو التبشير بصاحبها، كذلك نفعل نحن، نقرأ ما نحبُّ قراءته، ونسمع ما نحبُّ سماعه، ونعاينُ ما نحبُّ معاينته.. إذن، هناك مسافة جذب، قد تختلف بين كاتب ومترجم وناقد، وبين قارئ وقارئ، وهناك مسافة نفور أيضاً، فكثيراً ما ننفرُ من قراءة كتب عرضت لنا.
ولأنني، أعرفُ الشاعر والمترجم حيدر الكعبي منذ أكثر من نصف قرن، وحدث أنْ عشت قريبا- إلى حدٍّ ما- من تجربته، في الحياة والشعر والسياسة، فسيحقُّ القول لي بأنَّه ذهب إلى الشاعر الذي أحبَّ فترجمه، لأنه وجدَ فيه شاعراً قريباً منه، ومتسقاً معه، قارع الأنظمة المتخلفة، والدكتاتوريات بقصائده، وسخر بمواقفه من الحكام العملاء، ووقف ندِّاً مرةً، ويائساً أخرى، مما سيؤول إليه الإنسان في رحلته المريرة داخل الحياة. بارّا الشاعرُ الذي يُستعصى تصنيفه سياسياً، مثلما يستعصي القولُ بمكانته في الشعر اللاتيني، لكننا، نتفق على أهميته، فقد شقَّ لنفسه طريقاً مختلفاً في التعبير الشعري، «وكان شاعرا سلبّاً، عبَّر عن العدم، وسخِر من الامل، وكتب قصائد تخلو من أيِّ رسالة وأيِّ أخلاق» بحسب تعبير بورجسون. لكنه كان بين أكثر الشعراء التصاقا بالأرض، في جنوب امريكا.
شعر بارّا مكتوب بلغة بسيطة، يوميّة، قريبة إلى قلب القارئ العادي، شعرُ بلا تكلفة في الاستعارات وبلا صور منقلبة، كالتي نجدها في شعر لوركا ونيرودا مثلاً، ويبدو أنه اشتق لنفسه طريقاً في الكتابة، نأى به عن تأثيرهِما عليه، مع أنه كان معاصراً لهما، وغير مختلف كثيراً عنهما، في الموقف السياسي، فهو يزور موسكو، ويلتقي بإيليا اهرنبرغ، رئيس اتحاد الادباء السوفيت، ثم يحضر حفل جائزة نوبل، بالأكاديمية السويدية الممنوحة لبوريس باسترناك، المعروف بمعارضته للشيوعية، ويزور الولايات المتحدة في العام 1960 ويلتقي بشعراء البِيت الامريكان، ويصافح زوجة الرئيس الأمريكي بات نيكسون، مما كلفه قطع العلاقة مع كوبا، ويحضر مؤتمراً بجامعة كونثبثتون يصرح فيه بانه ينوي زعزعة الارض تحت اقدام الشعراء والقراء، ثم يقول:» الشاعرُ لا يكون شاعراً ما لم يغيّر اسماءَ الاشياء. يكتب قصيدة بعنوان (بيان) «لقد نزل الشعراءُ من الأولمب/ بالنسبة إلى كبارنا/ كان الشعر شيئا كماليا/ امّا بالنسبة الينا/ فالشعر حاجةٌ ماسة/ لا يمكننا العيش بدونها».
يمهِّد حيدرُ الكعبي في مقدمته لكتاب بارَّا (مواعظُ وخطبُ مسيح إلكي)* إلى قبولنا بشعره في جملة يتوقع بأنَّها سترِدُ على لسان القارئ العربي: «ترى، ما الشعريُّ في هذا الشعر؟ إنني لا أرى غيرَ كلام عاديٍّ، مما يتحدثُ به الناسُ كلَّ يوم»، وهذه حقيقة شعر بارّا، فهو يكتب ببساطة، تقترب من التقريرية، أوالتسجيلية، لكنْ، قد يقول أحدُنا هذا شاعرٌ مختلفٌ! فيقول آخر: وأين يكمنُ الاختلافُ هذا؟ أرى بانَّ القصائد في كتابه هذا تقوم على رمزية عالية، وذلك بإختياره لشخصية (دومينيغو ساراته فيغا) «الذي، وبسبب وفاة امِّه وقع في روعه انَّه مكلفٌ بمَهمة إلاهية، غايتها اصلاح الناس، وهدايتهم، فارتدى ثوبا من الخيش، وانتعل صندلا، واطلق شعرلحيته ورأسه، وشرع يطوف البلاد واعظا مرشدا.» فقد اتخذ بارَّا من الشخصية هذه مسيحاً جديداً- وهذا ما اعتقدته الناسُ فيه- ليُرسل قصائده المضادة، المحتجَّة، لا على الانظمة، حسب، إنما على نظام الاديان أيضاً:» حين ماتت المسكينة امّي/اتخذتُ قراراً حازماً/ الّا ادعَ الغضبَ يسيطرُ عليّ/ أن اقابلَ الاساءةَ بالاحسان/ أن أكافئَ السخرية بالدماثة المسيحيّة/ أن أردَّ على العجرفة والكِبرِ بتواضع الحَمَل/ مهما كانت شناعة الاستفزاز/ رغم إنني اعترف أنني، أكثر من مرّة/ كدّتُ اثورُ على الخالق/ لسماحه بكل تلك الفظاعات».
لم يصطدم بارّا مباشرةً مع نظام بيونيشت الفاشستي، الذي أطاح بحكومة سلفادور اليندي اليسارية، المنتخبة عام 1973 والتي مات أثرها نيرودا، لكنه توقف عن نشاطه الثقافي خمس سنوات، كاحتجاج ضمنّي، تحاشياً لبطش الانقلابيين. وفي معايير الفنِّ الشعري لا يبدو سورياليا، مع أنَّ شعره يوحي بذلك، ولا ينتمي إلى الواقعية الاشتراكية، إلا بمقدار توقه للحرية ولتشيلي، لكنَّ، رمزيته تتضح في ديوانه (مواعظ وخطب المسيح إلكي).
شاعرٌ تباينت الآراء فيه شخصاً وشاعراً، يُروى إنَّ نيرودا- الذي لم يكن على وفاق تام معه- قال عنه: «ما لا أفهمه هو كيف يمكن صناعة الشعر من العَدم، من الزبالة». ويبلغ حنق نيرودا عليه في قوله :»إنه مِزقةٌ من حذاء سيزار فاييخو».
(مواعظُ وخطبُ مسيح إلكي)* ترجمة حيدر الكعبي- اصدار دار غاف- دبي-2023