أفق التوقّع وأدبيّة المقروء

ثقافة 2023/12/03
...

  محمد صابر عبيد

يتحدد أفق التوقع أو الانتظار في سياق نظريات التلقي ضمن مسارات ما بعد الحداثة، حين يتمكن النصّ الأدبيّ من إثارة شهوة المتلقي لبناء أفق توقع وانتظار بناء على خبرته القرائيّة السابقة، وكلما كانت توقع المتلقي سليماً وصحيحاً انعكس الأمر سلبيّاً على سلامة الأفق الحداثيّ للمقروء، بالمعنى الذي يجعل من أفق انتظار القارئ متطابقاً مع مقروء سابق كون فيه رؤية حول نموذج صار تقليدياً لديه، لذا لا بد من كسر أفق توقع القارئ كي ينتقل في سياسة مقروئيّته من مساحة تقليدية خبروية سبق له أن عرفها؛ إلى مساحة جديدة لا معرفة له بها أو حولها توفر له فرصة الإدهاش والامتاع داخل فضاء قرائيّ لم يعرفه أو يتعرّف عليه سوى الآن.
كلّ ما يستطيع القارئ توقّعه في المقروء ينبغي على الكاتب الاستغناء عنه ومحوه من ذاكرة النصّ ورؤيته وفعاليّته النصيّة، لأنّ هذا المتوقَّع في حدود الفضاء الكتابيّ يخرج عن إستراتيجيّة الكلام الأدبيّ الحداثيّ؛ منتمياً إلى ذاكرة قرائيّة تقليديّة وسابقة عند المتلقّي، ولهذا جاء مصطلح “كسر أفق التوقّع” كي يشير إلى ضرورة تسليح الكلام الأدبيّ بطاقة إيهام تساعده على كسر أفق توقّع القارئ، داخل فعاليّة اشتباك عاصفة بين النصّ والمتلقّي لإنجاز عمليّة القراءة على النحو النموذجيّ، يحاول فيها المتلقّي اختراق النصّ وفتح مغاليقه؛ ويتمنّع النصّ محاوِلاً غلق الطرق المتاحة والممكنة والمحتمَلة أمام رغبة المتلقّي في الولوج الأعمق، وإيهامه بسلسة توقّعات وافتراضات سرعان ما يخيّبها النصّ وينقل فضاء التلقّي نحو مساحة غير متوقّعه، بحيث تتجلّى الدهشة ومتعة الاشتباك بطرافة أصيلة؛ لتصنع رؤية جديدة لعمليّة التفاعل بين الطرفَين على النحو الذي يثري فعاليّة التلقّي.
يصف علماء نظريات التلقّي هذه الرؤية القرائيّة بـ “العدول الجماليّ” الذي يبني بموجبه المتلقّي أفق توقّع جديداً بعد إخفاق أفق توقّعه التقليديّ، وهنا يكمن سرّ عمليّة التلقّي في تحريض المتلقّي على التواصل مع النصّ بطريقة نوعيّة وخاصّة، تمكّنه من كشف استراتيجيّة التفاعل الحيّ والمستمرّ والضروريّ المطلوبة لأجل تشكيل صورة التلقّي على النحو المنتِج، وإلّا لا فائدة من استمرار المتلقّي في حالة طمأنينة كاملة على لحظة توقّع سليمة مع النصوص، بما لا يقوده إلى مرحلة العدول الجماليّ حيث ينصرف نحو أفق جديد؛ يشيّده انطلاقاً من عتبة إخفاق أفقه القديم، والسير باتجاه حساسيّة جديدة يعبر فيها فضاء الأفق التقليديّ تماماً نحو مساحة أرحب وأغنى وأخصب، تجعل فعاليّة التلقّي مجدية ولها علاقة بالكشف والاكتشاف تتحقّق فيها نظريّة التلقّي.
يلقي هذا الأمر أعباءً كبيرةً على عاتق صائغ الكلام الأدبيّ في عملية صوغ نصّه وهندسته؛ وإحاطته بكثير من المصدّات لِلَجْمِ شهوة التلقّي، ومن أبرز استراتيجيّات التأليف في هذا المجال هي كسر أفق التوقّع التي تسعى إلى عدم ترك أيّ ثغرة نصيّة، يمكن أن تسهّل على المتلقّي استغلالها للعثور على المفاتيح النصيّة المخبوءة؛ ومن ثمّ فكّ مغاليق النصّ وفضح مستوره بسهولة، وعلى وفق خبرة سابقة ذات طبيعة تقليدية لا تحقّق العدول الجماليّ المطلوب لديه، ولا سيّما حين يفتقر النصّ إلى حمولات جماليّة ذات طبيعة مغايرة؛ تكون فيها بحاجة ماسّة إلى قراءة جديدة نوعية واستثنائية.
تنطوي هذه الاستراتيجيّة على كنز الخبرة الكتابيّة لدى الكاتب بما يجعله قادراً على إزاحة كلّ ما هو زائد وغير ضروريّ عن جسد النصّ، ليبقى النصّ في أعلى درجة من درجات الكفاءة والصيرورة الأدبيّة القادرة على التعبير عن جوهر المقولة بأقلّ ما يمكن من الكلام، إذ لا يمكن للمتلقّي بناء أفق توقّع سليماً يكون فيه قادراً على التوقّع ومعرفة ما يحصل في فضاء النصّ، وكأنّه أمام نصّ يعرفه وقدّ مرّ عليه فيما سبق؛ على النحو الذي يُفقِده أيّ قدرة على تحريض المتلقّي واستفزازه لبناء أفق توقّع
آخر.
تحتاج فعاليّة كسر أفق التوقّع إلى خبرة ووعي وذائقة مدرّبة ونشيطة وفعّالة وحساسيّة مرهفة وأصيلة، يكون بوسعها معاينة التشكيل اللفظيّ والجُمَليّ والمفاصل النصيّة الأخرى بتركيز وشمول وملاحظة دقيقة جداً، وتحسّس البنية الإيقاعيّة التي يتكوّن النصّ على أساسها في مستوى من التلاؤم والتناسق والتعاشق والاشتباك لا بديل له، إذ إنّ النصّ الأدبيّ يعدّ من النصوص الفريدة على صعيد التشكيل؛ بما يجعل محاولة كتابته بطريقة أخرى مستحيلة، لذا ينبغي تشديد التركيز على بنيته من الجوانب جميعاً لإزاحة الزوائد التي تعين المتلقّي على التوقّع، وطرحها خارج فضائه والإبقاء على كلّ ما هو جديد وحديث ومبتكَر، والاكتفاء بالدوال النشيطة المحمّلة بالقيمة والدلالة والرمز؛ لها وظائف فعّالة ومثيرة وأكيدة ومُنتِجة لا يمكن تعويضها مطلقاً.
يعدّ التكثيف وسيلة من الوسائل المساعدِة في دفع المتلقّي واضطراره لكسر أفق التوقّع عنده، حين يستغني الكاتب عمّا لا وظيفة له في كثافة كتابيّة شديدة التركيز، تقود المتلقّي إلى لحظة العدول الجماليّة التي تحرّضه على مزيد من التوغّل في الميدان القرائيّ، وتفرض عليه ضرورات قرائيّة جديدة تمتحن قدراته وإمكاناته في الذهاب باتجاه أفق توقّع جديد، يجعله قادراً على التواصل مع النصّ من جديد لإنجاز فعاليّة القراءة المطلوبة على النحو الذي يحقّق الكشف، ويجعل المتلقّي سعيداً ومبتهجاً عندما يدرك أنّه خاض تجربة قرائيّة مغايرة لم يسبق له أن جرّبها، وأدرك أن حيويّة النصّ الأدبيّ ومرونته وخصبه وبراعته تكمن أولاً في تخييب أفق توقّعه التقليديّ؛ ومن ثمّ الانتقال إلى أفق توقّع مبتكر يضيف له ويعمّق معرفته الجماليّة ويثريها.