الفلسفة ورؤية عصرها

ثقافة 2023/12/03
...

 حازم رعد

إن الفلسفة المنتجة والتي نستطيع وصفها بأنها «تقدمية» هي التي تحدث تأثيراً في الوعيان الذاتي والعامي، وهي التي تنبثق من قلب الواقع فتتدفق على هيئة تجارب وخبرات ورؤى «حلول» لمشكلات المناخ الاجتماعيّ والسياسيّ فتكون معبرة عنه.
فالفلسفة التي لا تكون روح عصرها زخرف من القول وغرور يتبجح به بعض المترفين على العوام من الناس.
فالفلسفة التي تبقى أسيرة خلف أسوار الأكاديميات هي ميتة، وإن كانت موضوعاً للدرس ومنهجاً للبحث والمناقشات العلمية وتقتصر على تلبية حاجة المنهاج الرسمي للمؤسسة.
إلا أنه في الحقيقة ليس لها تأثير في واقعها، فهي لا تعبر عنه «ليست هي من صميمه» أن التعالي على التاريخ موت للفكرة وللفلسفة، فالعلم والمعرفة اللذين لا ينتفع منهما الناس ميتان، وإن كانا أسطر مكتوبة ومناهج تدرس.
إن مسألة ولادة الوعي في الواقع تقتضي أولاً وقبل كل شيء «فك أسر الفلسفة» وإنزالها إلى الناس بلغة يفهمونها عبر مفاهيم ترسم سلوكاتهم وتكون ترجمان نشاطهم، فالفلسفة مالم تكن صورة مطابقة لمشكلات الواقع ولتطلعات المنظومة الاجتماعية مالم تكن مرآة تعكس الاهتمامات والهموم والآمال هذه فلسفة عقيمة لا تعدو كونها مفردات وكلمات لا جدوى، ولا طائل من ورائها.
ولذا يتحتم على المشتغلين في حقل الفلسفة أن يكونوا أكثر شعوراً بالمسؤولية واهتماماً بالواقع الاجتماعيّ أو السياسيّ، لأنه بالتالي يفيء عليهم سلباً أو إيجاباً وأن غاية مساعهم «حسب الفرض» إشاعة العقلانية والموضوعية والعلمية، فإذا كان الأمر، كذلك توجب أن تكون الفلسفة من جنس الواقع تحكيه وتعبرعنه، وهو يأخذعنها ويفيد من مفاهيمها وتاريخها.
وكون الفلسفة لا تلبي متطلبات الواقع ولا تطالع همومه وتطلعاته ولا تتدخل في التخفيف من صعوباته، ولا تحل مشكلاته هذه فلسفة رجعية، ولا تمثل واقعها وبالتالي هي معزولة عنه أو مترفعة على تاريخها أو كما يصفها بول نيزان تكون أخف من الملائكة، لا تتصل بالواقع  وهولا يتأثر بها، ولا يستفاد منها، فما هو الطائل الذي يعود على المجتمع وعلى الواقع وما الفائدة من هكذا فلسفات وهذا ما نسميه بالترف الفكري أو التفكير المنفصل عن الواقع وهو بالتاكيد بعيد كل البعد عن الحقيقة من منطلق أن الأخير مطابقة ما في الفكر للأشياء في الواقع وصدق الأفكار على الواقع، فهي عبارة عن مجموعة من الصلات بين الفكر والواقع تطبع في ذهن الإنسان عبر الاتساق المنطقي بين عناصر تلك الشبكة، فما لم تتحقق تلك المطابقة فهي ليست حقيقة، بل هي قوالب فكرية كتبت باياد مترفة وحملت بشكل مغلوط على الواقع، ولذا يحصل تنافر كبير بينها وبين الجو العام، وتكون محل ازدراء وتندر من قبل عامة الناس وهنا تبرز صعوبة اخرى تواجهها الفلسفة كونها لا تعبر عن الواقع ولا تنال رضا الناس فهي بعيدة عنهم وعن همومهم ومشكلاتهم.
إذن ليست الفلسفة شاذة عن مناخها، فهي ليست آراء ودعوات تبرز أو تتدفق على خلاف الواقع أو مغايرة له، وإذا كانت كذلك فسيظهر خطأها عدم مناسبتها، لهذا الواقع أو ذاك المناخ من دون أدنى شك، فهي روح عصرها كما عبر عن ذلك فريدريك هيغل، إنها خطاب يعبرعن مشكلات المجتمع وهمومه وترجمان تطلعاته وخلاصة حاجاته وأفكاره.
فالفلسفة في زمن السلم داعية إليه وتعبر عن ذلك بمفاهيم مناسبة نظير التسامح، وقبول الاختلاف والانفتاح على الغير، وهي في زمن يسود الظلم فيه داعية على مجابهته بالوسائل المتاحة والطاقات الممكنة، فهي لا تقبل أن تبقى مكتوفة الأيادي أزاء التعديات، لأن العقل النقدي يتمرد ويكافح غاية في الخروج عن السائد.
من هنا فإن الفلسفة بوصفها بنت بيئتها ونتاج الثقافة والسياق التاريخيّ الناشئة فيه تبدع أفكاراً وتدعو إلى ممارسات ونشاط ينسجم مع ذلك الواقع، كي تحقق المناسبة بين الحكم والموضوع في سياقه الظرفي.