د. حامد رحيم
عندما تتحطم السفينة في عرض البحر المتلاطم الأمواج، وتصبح حياة الركاب على المحك، تنشد الاذهان إلى هدف مركزي مفاده: ما هو السبيل للوصول إلى اليابسة؟، كيف تشحذ الهمم لينتهي المطاف بالوقوف على الأرض؟، وعندها يصبح كل ما عدا هذا الهدف مجرد هراء محض كالحفاظ على أناقة الملابس مثلا أو الانشغال بإقامة حفل عيد ميلاد أو تحضير فنجان قهوة
بهذا التشبيه والمقاربة يمكن أن نصف بلدان التخلف الاقتصادي، عندما تغرق الشعوب في معدلات فقر عالية ومعدلات بطالة كبيرة في ظل هيكل انتاجي متخلّف تعكسه خارطة الناتج المحلي الإجمالي مع تخلّف معرفي نتيجة لسوء المؤسسات التعليميَّة وتردٍّ صحيٍّ وفشلٍ في البنية التحتيّة وسيطرة لجماعات انتهازيّة على مقدرات تلك الشعوب فيتفشّى الفساد وسوء التوزيع للثروة والدخل، ويصار إلى «إصلاحات» شكليَّة وليست جوهريَّة من قبيل تحرير التجارة والسماحات الضريبيّة غير المبررة وتحسين التصنيفات الائتمانية للدولة وغيرها، من دون أن تشحذ الهمم لثورة اقتصاديّة بمعناها الدقيق المتمثل بالانتقال نحو واقع اقتصادي جديد يؤسس إلى القطيعة مع الماضي الاقتصادي البائس، يستهدف الفقر والبطالة وتنويع الإنتاج وإيجاد عدالة ضمن الحد المقبول بتوزيع الدخل وإيجاد نهضة معرفيّة وتغيير في القطاع الصحي وإيجاد قطاع صناعي متين وغيرها والتي يمكن اختصارها بمفهوم واحد وهو (التنمية الاقتصاديّة)، عندها سيكون الانشغال بالشكليات التي تفرضها (الايديولوجيا) المفروضة في إطار سياسي التي لا تكترث إلى خصوصيات البلدان المتخلّفة وتحاول تسويق نفسها على أنّها (الحل السحري) للتخلّف، وأقصد الليبرالية الاقتصادية، والتي يقابلها التعنّت والتزمت بالنماذج الفاشلة وفق التجربة القائمة في بعض البلدان المتخلفة المستندة إلى العسكرة وخلق الأزمات والسعي نحو تحقيق (أحلام الأنظمة السياسيّة الفاشلة) على حساب معاناة الشعوب وكلا الطريقين لم تنتج شيئا تنمويا لتلك الشعوب الغارقة بالتخلف الاقتصادي، التنمية الاقتصادية هي ذات فكرة الخلاص لركاب السفينة المحطمة في عرض البحر بالنسبة للشعوب المتخلفة.
إنَّ توجيه الدفة نحو الخلاص يعني اتباع (المنظور الاستراتيجي) بالتعامل مع الواقع للخروج من عنق الزجاجة عبر التركيز على فكرة تحقيق التنمية والتغيير الجذري للواقع الاقتصادي وترك الانشغال بالعوارض، وما يسوق من هنا وهناك على شكل وصفات لا تستند إلى التشخيص الصحيح للعلل أو ما يملي من قناعات للأنظمة التي فشلت في القيادة والإدارة.
وللتنمية شروط نصّت عليها النظرية الاقتصادية، وهي عديدة ولا يسع المقال لسردها، ولا بأس من التركيز على محور مهم منها وهو (التراكم الرأسمالي) هذا المحور (الضروري وليس كافياً) لتحقيقها، فالتمويل للمشاريع التنموية هو احد التحديات الكبرى في وجه شعوب التخلف وهو احد أسباب اللجوء نحو المنظمات الدولية وما يسوق من وصفات ليبرالية، بالمقابل يعاني هذا المحور من ضياع (الفرص البديلة) عبر توجيه الوفورات المالية نحو مشاريع العسكرة والتمويل للنشاطات السياسية للأنظمة الفاشلة لتحقيق طموحها السياسي غير المجدي تنمويَّاً.
الاقتصاد العراقي وفقاً لمؤشراته الأساسية غارق في التخلّف، بالمقابل يحقق إيرادات دولاريَّة كبيرة جداً بسبب أسعار النفط خصوصاً بعد عام التغيير السياسي، إذ بلغت الإيرادات أكثر من (واحد والنصف) ترليون دولار من دون أي اثر تنموي، ولأسباب عديدة، لكن هناك جزئية مفادها: أن تلك الإيرادات خرجت من باب السياسة التجاريّة غير المدروسة مع المشكلات التي رافقتها من قبيل التهريب وغسيل الأموال، مما انعكس سلبا على فكرة (التراكم الرسمالي) المفترض ان يوجه إلى المشاريع التنمويّة، وبغض النظر عن المشكلات المشار اليها، فإنّ قانون البنك المركزي المشرع عام 2004 في المادة المشار اليها في العنوان والتي نصت على «الشراء والبيع البسيط غير المشروط النقدي أو الأجل للنقد الأجنبي» فتحت بابا واسعا لخروج الدولار إلى الخارج البلد من دون أي سياسة تنمويّة تحد من هذا العبث، وله تجليات ملموسة من قبيل حجم الاستثمارات الكبير للعراقيين في عقارات تركيا والأردن وحجم الاستيرادات الكبير الذي أضعف القدرة التنافسيّة للإنتاج المحلي وغيرها باعتبار أنه لا يوجد شرط يحدد خروج رأس المال من الداخل إلى الخارج وفق المادة القانونيّة المذكورة، إنّ إهمال هذه الجزئية والالتفات نحو شكليات من قبيل الحفاظ على حجم الاحتياطيات لدى البنك وتنويع استثمارته في الأصول والتي بالرغم من تحقيقها نسب إيجابيّة عبر المدة الزمنيّة لكنّها لم تحقق أيّ اثر تنموي مما يحيلنا إلى فكرة
(السفينة المحطمة).
للأسف أن السكوت والتغاضي عن تعديل هذا القانون هو نتيجة لالتقاء المصالح للقوى المهيمنة على الريع النفطي في العراق والمحيط الإقليمي المنتفع من هذه المعادلة وحتى المجتمع الدولي الذي يرى في ذلك تجسيداً لفكرة الليبرالية الاقتصادية التي تدعو إلى رفع القيود عن الحركة التجاريّة، وهنا تكمن الدعوة إلى إعادة النظر والمعالجة وتقنين حركة رأس المال وضبط التجارة لإيجاد التراكم الرأسمالي شرطا ضروريا وليس كافياً للشروع نحو التنمية الاقتصادية إن كانت هناك نيَّة لتوجه تغييري للاقتصاد العراقي، وهذا يبدو مستبعداً في ظل معادلة تلاقي المصالح على حساب هدر حقوقنا التنمويَّة.