ماذا يعني أنْ نتفلسف في قانوننا؟

آراء 2023/12/03
...

القاضي ناصر عمران

يقول الفيلسوف الالماني (لودفيغ فيتغنشتاين) الرائد في بحث اشكالية اللغة والفكر: (إن هدف فلسفة القانون هو التوضيح المنطقي للمفاهيم القانونية)، والحديث عن المفاهيم والكشف عن ما هيتها يتأتى، من خلال دراسة الاستعمال اللغوي في السياق، والذي يسميه اللسانيون (التداولية)، فاللغة القانونية تقدم نفسها ضمن المحتوى الدلالي، متماهية مع الفلسفة في تداخل نسقي شكل سمة مميزة للتفكير التداولي في الأوساط المعرفية القانونية، والتي من أهم مميزاتها النظرة الشمولية للخطاب القانوني، فالقواعد القانونية تتفاعل أجزاؤها تفاعلا، يجعل الفهم السليم للنص متوقفاً على جميع النصوص الاخرى المتصلة به، اذ القانون - كما يرى الدكتور مرتضى جبار في كتابه (اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني )- ليس مجموعة نصوص معزولة، بل هو مجموعة قواعد مترابطة ومنظمة تشكل كياناً منسقاً، فتكون كل قاعدة في هذا الكيان جزءا من كل، لذا فإن معنى كل جزء يتضح في ضوء كل متماسك، ومن ثَم يجب عند تفسير التشريع النظر إلى بنوده ومواده ونصوصه كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، يكمل بعضها بعضاً، والإقرار بأن كل نص من النصوص يتحدد مداه حين يُقارن بالنصوص الاخرى، إذ إن النص أما أن يكون متفرعا عن تلك النصوص أو استثناءً منها أو تطبيقاً لها.
إن تصورنا الأساس في هذه المساحة الكونية الذي نعيشها تتضمن باننا ضمن نظام، له وظائفه وغاياته واهدافه ونحن الجزء الفاعل من هذه الوظائف والاهداف والغايات، ففرضية القانون هي فرضية التشكيل والتنظيم الناجم عن الحاجة إلى الاشباع بكل تفاصيلها المادية/ اليومي الراهن أو المستقبلي والمعنوية/ المرتبطة بالحاجة العقلية (الفهم والوعي)، وكل تلك الحاجات المادية والمعنوية لا تخرج عن السياقات القدرية المؤطرة بقواعد هذا النظام الكوني، ان رحلة الاكتشاف الفطرية لهذا العالم المرتبطة بالحاجات الانية البشرية أو تلك المرافقة للفهم والوعي الباحث عن الماهية والكينونة والوجود.
هي: رحلة البحث عن الإنسانية أو الأنسة في ذاتنا أولا، ثم الانزياح منها باتجاه الوظيفة البنيوية للوجود.
إن العبور من محدودية بشريتنا إلى فضاء انسانيتنا الواسع هي القيمة الحقيقية للفلسفة، فالاشتغال الفلسفي بصورة عامة، وفي فلسفة القانون بشكل خاص هو ليس ترفا فكرياً، بل تأصيل للمفهوم القانوني وتحديدًا لماهيته وتعريفه ان فلسفة القانون هي معرفة المبررات العقلية والمنطقية لوجود القانون في حياتنا، فالفلسفة غير معنية بالقاعدة القانونية ومحتواها البنيوي التكويني المدرج بالنص، إنما هي معنية بتشخيص العلل والتشوهات المجتمعية وايجاد المعالجة القانونية التي لا تأتي بمخرجات من الترف الفكري كما يُعتقد في الفلسفة إنما من الحاجة الضرورية والملحة
للقانون.
فالقانون الضرورة هو قانون النظام المُنتج وليس الناتج قانون الوضوح، وليس التوضيح وحين نتفلسف قانونا ليس لكي نتعالى، ولكن لكي نكون أقرب إلى أنفسنا وحاجاتها إلى القانون أننا نتفلسف، لكي نرى المديات إلا بعد برؤية الواقع ولحاظه، وليس بفوقيات اللفظ وغموض المعنى، إننا نتفلسف لنكتشف وحين نكتشف نأصل وحين نأصل نحدد، وبعد أن نحدد نُشكل، ثم ننظم ضمن منظومة خطاب واضح وجلي في مفاهيمه، إننا نتفلسف قانونا لنتعلم، وحين نتعلم فإننا نفهم وبعد أن نفهم نعي، والوعي هو مرحلة متقدمة في الوصول إلى النضج/ المعنى وبالتالي حكمته لذلك قيل في تعريف الفلسفة: هي دراسة طبيعة الواقع والوجود ودراسة ما يمكن معرفته والسلوك السوي من السلوك الخاطئ والفلسفة في البداية والنهاية هي (حب الحكمة) كما يقول
الإغريق.