الثقافة السياسيَّة في العراق

آراء 2023/12/04
...


 ابراهيم العبادي

تعاني الثقافة السياسية في العراق من مشكلات متعددة، من أبرز هذه المشكلات ارتباط هذه الثقافة بالأيديولوجيات، التي سادت أو حكمت أو تصارعت في العراق، ومع أن الثقافة السياسة عنت التوجهات والاعتقادات والمعارف والقيم والسلوكيات، التي يعبر عنها افراد المجتمع ازاء النظام السياسي أو مجمل القضايا السياسية، لكنها في التعريف النهائي تعكس نمط تفكير الفرد واستجاباته النابعة من قيمه، التي تشكل دوافعه السياسية، من حيث التفاعل والمشاركة والرفض والمقاطعة والتأييد والولاء وعدم الولاء.
في سياق تحليل اثر الثقافة السياسية على سلوك الافراد السياسي يمكن تتبع عنصر المشاركة السياسية في شقها العملي (المشاركة في الانتخابات)، كمؤشر على قيمة من قيم الثقافة السياسية، التي تحمل الأفراد على التصرف سلبًا أو إيجابا، في هذا الصدد يمكن التوجه بسؤال عام إلى المواطنين عموما عما تعني لهم عملية التوجه إلى صناديق الاقتراع واختيار ممثليهم في البرلمان العام أو في مجالس المحافظات، لتأتي الإجابات كاشفة عن ذلك، فقد شهدت نسب المشاركة منذ أول انتخابات حرة أجريت بعد انهيار النظام السابق، وحتى آخر انتخابات عامة شهدتها البلاد (عام 2021)، تراجعا مستمرا وجاءت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات لتسجل تدنيا ملحوظا اذ بلغت رسميا 41 بالمئة من مجموع الناخبين وقد تكون اقل من ذلك بكثير، وربما اقتصرت على الجمهور الحزبي وحده، في سابقة تشير إلى تراجع الثقة في الطبقة السياسية وهيمنة الإحباط وعدم المبالاة على الجمهور.
يذهب بعض المهتمين إلى عد (برود) المواطنين وعدم تفاعلهم مع الانتخابات العامة أو المحلية، رغم التسخين والتعبئة التي تمارسها بعض القوى، إلى تعثر المسار الديمقراطي في العراق، وكان من علامات ذلك فتور الارادة العامة ونكوص الوعي بأهمية نجاح التجربة الديمقراطية والاصرار على تعزيزها، بل هناك من يذهب إلى عد الجدالات والمساجلات الشعبية الداعية إلى نظام سياسي صارم، يقلص سقف الحريات ويعيد ممارسات الخوف والضبط اليومي وتقليص عدد الأحزاب بأنها انتكاسة للديمقراطية وفشل للتنشئة السياسية أيًّا كانت الأسباب والعوامل، التي أنتجت هذه الظواهر.
يمكن القول بلا مجازفة إن الثقافة السياسية للغالبية الاجتماعية العراقية لم تستوعب المعنى الجوهري للتجربة الديمقراطية، سواء لجهة تداول السلطة والمفاضلة بين المشاريع والاتجاهات السياسية وتحكيم الإرادة الشعبية، وتحقيق التمثيل إلصادق للجمهور، ولذلك سارع البعض إلى نفض أيديهم من الخيار الديمقراطي، بسبب تراكمات حقبة الاستبداد ونمط التنشئة، بل قل نمط الثقافة السياسية القديمة والحديثة، التي تحتفظ بها ذاكرتهم العامة، هذه الذاكرة مشحونة بنمط الحاكم المستبد القوي الباطش، والسلطوية العنيفة، المصحوبة بريعية اقتصادية تمثل اداة الحكم، في ضبط المجتمع والسيطرة على النزعات المضادة، ومادامت الديمقراطية لم تترسخ ثقافة عامة، على مستوى المفاهيم والغايات والفاعلين، وأنها صارت مشوبة بظواهر تقوّض أهدافها وتنقض غايتها، خصوصا بعدما تكرس حضور المال السياسي والسلاح إلى جانب الصراع الحزبي العميق، الذي يتجاوز المبادئ العامة والحقوق الدستورية، لذلك من غير المستبعد أن تظل الممارسة الديمقراطية شكلية المظهر فقيرة المحتوى، بل قد تفقد شرعيتها وحضورها حينما تقتصر على جمهور محدود لا يمثل الإرادة الشعبية.
عند تحليل وتفكيك هذه الحالة التي يشهدها العراق، سنعثر على جل الاسباب في الثقافة السياسية والقيم التي تنتجها، فهي ثقافة لم تتأسس على وعي متكامل يقطع (من القطيعة) مع الماضي القريب والبعيد، ويستفيد من الدرس التاريخي، بل إنها لم تتوافر على نقد منهجي للحقبة السياسية السابقة، وجاءت المجايلة لتزيد المشكلة تعقيدا بوعي ناقص وتصورات مغلوطة، فالجيل الجديد الذي لم يعش البطش وخنق الحريات والدموية التسلطية المرعبة، صار يقارن الحاضر بماضٍ تشكله صورة متخيلة غير واقعية عن زمن (الدولة القوية المهابة) وعن القانون والنظام الذي لايمكن تجاوزه، والمجايلة التي أشير اليها تسجل لنا وعيا معطوبا وثقافة سياسية مشوهة لا تختلف في تشوهاتها عن صورة اجيال العهد الدكتاتوري، التي ادمنت القهر والموت والخراب، ثم أصبحت الآن مصابة (بمتلازمة ستوكهولم)، حينما يبدأ الضحية يتعاطف مع جلاده ويدافع عنه في غياب تام للوعي التاريخي وللتوازن المعرفي
والعاطفي.
قد لانتفاجيء اذا ماخرج جمع من العراقيين يطالب علنا بنقض الدستور وتغييره لصالح مجيء (المستبد العادل) فالقضية في بعدها النفسي والاخلاقي تشي عن اضطراب قد لا يكون معبرا عن نوستالجيا الماضي بقدر ماهو رد فعل على فشل جزء من الطبقة السياسية اخلاقيا قبل ان يكون فشلا في ادارة المال والموارد.
العراقي مسكون بالمثال النزيه والنموذج الاخلاقي، وثقافته السياسية متمركزة على صورة المثال، الذي يحقق العدل الاجتماعي، وحينما يغيب الرمز العادل والنموذج الاخلاقي فإن كل شيء عنده يستحيل إلى سواد.