ياسين طه حافظ
في السفر، لا تبحث عن موضوع للكتابة. ثمة الكثير لم يعبّر عنه في داخلك والكثير لم يجد فضاء في الحياة فاختزنته الذاكرة: بعض تنساه، بعض لاعجُه لا يكف حتى تطمئِنه بأنك آت وأنه سيسعد بالضوء.لذلك وجدتني في دار الاستراحة، التابعة للمشفى مهيأ جداً، بل ساخناً متحمساً لكتابة أي موضوع أراه، حجراً متكئاً على حجر، نبتة وحيدة، دويبة تتنزه قبالتي على الحافة الرطبة، صوت مؤذن في فضاء شاسع مغيم، عجوز يقف ويؤدي الصلاة لبوذا. ماذا باح له.. ماذا أراد، مما أو ممن اشتكى، هذا ما لايعرفه أحد. هو وقف وأدى الطقس وأكمل طريقه لا أدري لأين، ولكن شيخوخته وعجزه أراد لهما ثالثاً يدفع شرهما عنه أو ليظل في سلام.
ما كان فجراً. كانت الشمس تحاول الدخول إلى غرفتي اذاً، فلاستيقظ، أعني فلانهض، لا تنتهي الخواطر ولا تنتهي الأفكار. سينما صغيرة مخفية (مني سينما) تعمل ليل نهار. هكذا حرضت نفسي على الاستيقاظ، والابتعاد عن السرير وكأنْ وصلت الشاطئ فأنا أتحرك على اليابسة. متأخر أنا اليوم، ما اعتدت أن تسبقني الشمس، أنا عادة استيقظ قبل أن تستيقظ الشمس! أنا اليوم مختلف، ربما بسبب تعب النهار أو ربما مرتاحاً من نتائج أفلام الفحص والتحاليل، ربما أيقظني هاجس عابر، فكرة أرادت الحضور بقوة واستترت مرجئة حضورها نهار اليوم. قد تكشف عن نفسها غداً أو أي يوم. إن لأحداث النهار، مرئياته وأجوائه صلة بالأفكار التي تبزغ أو التي يوحى بها. هي عموماً كذلك. أنا نجوت من موت محتمل، من عملية في شريان العنق أُرجِئت. وكانت بقية النهار كريمة صحواً، حتى صرت أترقب ما يفرح أكثر. لكن هذا لم يمنع التوقعات من الثانية التي تهددني، بعد يومين سيقول الجراح الثاني ما يتقرر بشأن الفقرات العنقية. العنق ايضاً! هكذا وفي المشفى الهندي.. وانزاحت بعدها الغيوم، وتأكد لي أن مخاوفنا أحياناً أكبر مما يستوجب أي حال. الخيال يوسع المخاوف وتوقّع الأسوء وفي أحيان يوسع كثيراً من الفرح ومن الآمال. هكذا نحن نخسر مساحات من حياتنا بين هذا وذاك، ونحن وحيدون في منطقة الحياد، خبزنا بسبب ذلك لا يبتعد كثيراً عن الكدر. نفضت كل بقايا النوم والنعاس ومخلفات الأفكار، فأنا طازج، نشيط وأشعر بنعمة النهار الجديد. لكن ما ذلك الذي يتحرك على جدار القصر أمامي؟ بعيد هو لكني أميز سواده وحركته. رأيته الآن بوضوح أكثر، هو بحجم أوزة أو غرنوق تابعته، هذا صقر، صقر أسود كبير!
ليكن الحديث عن الصقر، هذا الطائر المفترس الذي يعيش على الاضعف منه من الطيور. هو ليس أكبر أو أقوى المفترسات، ولكنه أوسع منها شهرة ومصدر خوف. شهرته سيئة ألا عند مربي الصقور. صقور الهند تختلف! هي لا تؤخذ للتدريب وتُستَغلّ للصيد. ولذلك هي كبيرة وفي مأمن حتى بين الصقور، «مترفون» واجواؤهم مريحة آمنة..) كما نقول عن بعض الناس.
الصقر بالنسبة لي يمثل مشكلة ومشكلة أخلاقية، لا أدري كيف أجد لها حلاً يرضي الجميع. فهو يجب أن يعيش ويعيش على ما يصطاد، اللحم طعامه. وافتراسه لطيور أخرى أمر مُدان. كيف الحل؟ ظروف الخلق، عالمه، الكون.. وضعته في هذا الاتجاه وثمة كراهة واسعة دائماً لأن يعيش كما قُدّر عليه أن يعيش وصُنِع أو خلق لذلك منقاراً واجنحةً ومخالب. ونحن لا نريد، بل ندينه ونكره أن يفترس غيره، ناسين باننا انواعٌ «مهذبة» أو مخادعة من ممارسي الافتراس.. هكذا، وكما ترون، صار الصقر موضوعاً لأنشغل به هذا النهار وأكتب عنه. وهو صار قبل هذا موضوعاً في الأدب، في الشعر عادةً قبل غيره. لكن الشعر كما هو شعر، لا يتحدث بمنطق علمي، أو عملي، ربما كي ينفِّر الناس من الاعتداء والقسوة أو لننجوا منها.
انتهاك الحياة والقسوة كريهان وهما اجتمعا في الصقر، وهو مثل أي منا لا يريد أن يموت، وهكذا خُلٍقَ ليعيش.. نحن الآن لا نستطيع القول بأنه يعيش كما خلقَ نسلم للحقيقة ولا نستطيع أن نقول يجب أن يموت. نتيجة ذلك أنه كسب الكراهة، وما ارتكب في ظنه، أو في رأينا، جرماً. هو عانى من حياته ولا يريد أن يموت.
صار الصقر رمزاً، رمزاً للفخر والتباهي. فاتخذ منه العسكر رمزاً، رمزاً للسيطرة والشجاعة، للجسارة والانقضاض على الهدف، أو العدو. يذكرني صقر اليوم، بقصيدة لـ «تيد هيوز» ترجمتها إلى العربية يوماً بعنوان «الصقر جاثماً» هيوز يرى الصقر جاثماً، يرى مخالب افتراسه وتهؤه للانقضاض. لم يكن تيد هيوز يتحدث عن الصقر، لكنه كان يتحدث عن الصقر سنة كتابة القصيدة. يتحدث عن هتلر وهو يهدد أوربا ومتهيئاً محتدماً ليمزق أي بلد.
أرفع رأسي عن دفتري، وأنظر للحائط العالي. الصقر الأسود الكبير يتحرك، حركة أكبر، ليفرد جنحيه الاسودين ويطير، ربما رصد لقمة الصباح أو رزق الصباح، فحتى السراق والمرتشون يسمون فرصة الكسب رزقاً.. وهذا الفهم ضمن ما أشرنا اليه، وضمن حيرتنا في فهم الحياة وطبائع الخلق فيها. في كل حال هي الحياة هكذا تتواصل وفيها ما فيها مما يسر أو يؤسف، ما ينفع ويضر ونحن نبقى نكتب عنها، عن الصقر
أو ضحيته.