رأس الحمار

الصفحة الاخيرة 2023/12/05
...

حسن العاني



بحلول العام 1928 أنهى والدي رحمه الله دورة القرآن الكريم على يد الملا سلمان العوادي رحمه الله، وكان عمره سبع سنوات، ومع أنَّه لم يكمل مشواره التعليمي، بل لم يذهب أبداً الى المدرسة، مكتفياً بما تعلمه من أوليات المعرفة البسيطة بالحروف وبعض الكلمات والأرقام، إلا أنَّه منذ وقتٍ مبكرٍ من طفولته – بشهادة جدي وأعمامي – كان موهوباً وذكياً وأكبر من عمره، بحيث أجاد بعد سنوات قلائل القراءة والكتابة بجهدٍ فردي، وبصورة أفضل من إجادة تلامذة الصف السادس الابتدائي.

والدي مثل معظم أبناء جيله في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي لم يكن معنياً بإكمال دراسته قدر اهتمامه بالانصراف الى العمل الحر من أجل الحصول على بضعة دراهم تكون عوناً لجدي وللأسرة في توفير لقمتها واحتياجاتها، غير أنَّ سيرته التي رواها من هم أكبر سناً منه – ولم تهتم بها الدولة مع الأسف – تفيد بأنَّ الرجل مع بلوغه سن المراهقة ثم الشباب، ظهرت عليه معالم العبقريَّة والنبوغ والأفكار التي تفوق عمره.. ولهذا – كما أخبرني هو نفسه – كان أصحاب الأعمال الحرة يتنافسون على كسبه الى جانبهم، وعادة ما كانوا يدفعون له أجراً أعلى من أقرانه، لا سيما بعد أنْ انتبهوا الى كونه ليس فقط شديد النباهة والإخلاص والحرص في عمله، بل هو كذلك إنسانٌ يمتلك يداً نظيفة، ومؤتمنٌ على أموالهم.

المفارقة المثيرة للانتباه أنَّ ابنه (أعني أنا) لم أكن كذلك، ولم أرثْ عنه أية خصلة تنمُّ عن نباهة أو ذكاءٍ أو فطنة، ولهذا - غفر الله له ورحمه برحمته الواسعة – كان يصفني حتى بعد حصولي على هوية اتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين والشهادة الجامعيَّة وشهادة التلقيح ضد كورونا بأنني (كائن يحمل جسد إنسان ورأس حمار) وهذا وصفٌ جارحٌ أكثر مما هو مؤلمٌ ويحرجني جداً، خاصة بعد أنْ بات يناديني بلقب (أبو راس)، على أنَّ عزائي الوحيد والكبير هو أنَّه والدي وأنا أحبه وأحترمه كثيراً، زيادة على أنَّ وصفه لا يتعارض بالطبع مع كوني عراقياً، أحب وطني وأغار عليه وأخدمه، ولهذا كتبت مقترحاً وعرضته على والدي قبل وفاته بزمنٍ قصيرٍ لأستنير برأيه، ومفاده أنَّ نسبة كبيرة من المسؤولين متهمة بسرقة أموال الدولة، ولهذا يجب تفتيش المسؤول عند التحاقه بالدوام صباحاً، ثم عند مغادرة الدائرة! نظر إليَّ والدي بازدراء وقال [ليش الجماعه غشمه، ولك السرقات مو دنانير تنحط بالجيب.. السرقات تواقيع على مشاريع وهميَّة وعقود بالمليارات]، شخصياً لا أرى والدي على حق، لأنَّ الحمار، حتى رأس الحمار الذي أحمله فوق جسدي لا يصدق ولا يتصور أنَّ المسؤول يمكن أنْ يسرق أهله.