أحمد الشطري
أطلق مصطلح (الواقعيَّة السحرية) (Magischer Realismus) في الأدب على تلك الروايات والقصص التي تجتمع فيها عناصر الواقع والخيال، والتي تنمحي فيها الحدود بين الاثنين، أو بتعبير آخر أنها تتميز بانطوائها عناصر سحريَّة أو خارقة للطبيعة ضمن بيئة واقعيّة.ومما لاشك فيه أن وجود مثل هذه القصص والروايات، لم يكن ناتجا عن تأثيرات المصطلح، بل إن هذا المصطلح شأنه شأن كل مصطلح نقدي هو وليد المنتج الإبداعي وليس العكس، ولكن ولادة المصطلح بكل تأكيد ستكون في الغالب موجها تقنيا للنتاجات اللاحقة.
فرواية مرتفعات وذرنغ (Wuthering Heights) لإيميلي برونتي والصادرة عام 1847، ورواية المسخ (Die Verwandlung) لفرانز كافكا عام 1915، وقصص ألف ليلة وليلة هي النماذج الأولى لمفهوم الواقعيَّة السحريَّة، والذي ظهر كمصطلح نقدي عام 1925 على يد الناقد الألماني فرانز روه في وصفه وتحليله لأعمال الفنانين الألمان الذين كانوا يصورون الموضوعات الروتينية بشكل غرائبي، بعد ذلك أصبح النقاد يستخدمون هذا المصطلح في توصيف لوحات الأمريكية جورجيا أوكيف (Georgia O›Keeffe) ولوحات المكسيكية فريدا كاهلو(Frida Kahlo)، ثم جاء الناقد المكسيكي أنجيل فلوريس (Ángel Flores) ليستخدم مصطلح الواقعية السحرية أدبيا في وصفه لكتابات المؤلفين اللاتينيين، والذي يرى أنها بدأت مع قصص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس لتؤكد وجودها في أعمال إيزابيل الليندي (Isabel Allende) ولورا إسكيبيل(Laura Esquivel) وغابريل غارسيا ماركيز وغيرهم، ولتكون نموذجا عاليا لمفهوم الواقعية السحرية.
ويمكن إرجاع الخلفية التاريخية للواقعية السحرية إلى خصوصية التقاليد الثقافيّة والأدبيّة لأمريكا اللاتينية، إذ تتمتع هذه المنطقة بتاريخ طويل من رواية القصص والفولكلور وغرائبية المعتقدات لدى السكان الأصليين، والتي غالبًا ما تتضمن عناصر خارقة للطبيعة وسحرية، وقد وفرت هذه التأثيرات الثقافية، جنبًا إلى جنب مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية في القرن العشرين، أرضًا خصبة لظهور وتطور الواقعية السحرية كأسلوب مميز للأدب اللاتيني.
لقد شهدت أمريكا اللاتينية حالة من التغيير السياسي والاجتماعي المكثف خلال منتصف القرن العشرين، إذ كانت العديد من دول هذه المنطقة تعاني من مختلف الصراعات المتمثلة بقضايا الاستعمار والدكتاتورية وعدم المساواة الاجتماعية، وقد ساهمت هذه الأوضاع المضطربة وكنوع من ردت الفعل في خلق رغبة لدى الكتاب والمثقفين في تحدي التقاليد الأدبية التقليدية، والنزوع إلى تجربة تقنيات وأساليب جديدة في الكتابة والسرد القصصيّ والروائي التي تعكس تعقيدات مجتمعاتهم، ولعل من المهم أن نشير إلى أن أحد أهم المؤثرات في تجربة تقنيات السرد الجديدة بالإضافة إلى تلك الظروف والمسببات هو التأثر الكبير بقصص ألف ليلة وليلة وحكايات الشرق التي نقلها ونسج على منوالها الكاتب الأمريكي (واشنطون إرفنج) (1783–1859م) والذي يؤكد بأنه أعجب وتأثر بقصص الحكائين الأندلسيين عندما زار إسبانيا وتحديدا غرناطة “والتقى بـ طماتيو خيميني”، الذي قصَّ عليه حكاياتٍ استمع إليها من جدِّه الذي وُلِد قبل ذلك بمئة عام، فحكى له عن أسرار السحر العربي و البحث عن الكنوز المخبأة وقصص الحُب العذري، وغيرها من التراث العربي الأندلسي.”
وقد اعترف بورخيس وماركيز بتأثرهما بقصص ألف ليلة وليلة، حيث يقول ماركيز في مذكراته “إن كتاب ألف ليلة وليلة هو ما صنع مني أديباً، بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شغفت به هو دور الراوي”.
وإذا كانت عملية دمج العناصر السحرية في نسيج الواقع هي من أهم الخصائص المميزة للواقعية السحرية، فإن ذلك غالبًا ما يتم باستخدام أسلوبٍ دقيق وبسيطً في طريقة التعامل مع العناصر السحرية، إذ لا يتم تقديم العناصر السحرية على أنها غيرعادية أو خارجة عن المألوف، بل يتم تصويرها على أنها جزءٌ طبيعيٌ من وجود الشخصيات، وهذا النهج الدقيق والبسيط هو ما يولد الإحساس بالواقعية داخل العوالم السحرية في الرواية.ويمكن أن نذكر هنا بعض الخصائص المهمة في بنائية روايات الواقعيَّة السحريّة:
1 - عدم وضوح الحدود بين الواقعي والخيالي. مما ينتج مزيجًا سلسًا من الاستثنائي والعادي، يؤدي إلى حالة من التشكيك في طبيعة الواقع واستكشاف الأعماق الخفية للتجربة الإنسانية.
2 - تلعب الرمزية والاستعارة دورًا مهمًا في الواقعية السحرية، حيث تساعد في نقل معاني أعمق وإثارة المشاعر داخل السرد؛ من خلال الأثر الجمالي والدلالي للرمزية واللغة المجازية على عملية تعزيز العناصر السحرية للقصة أو الرواية؛ مما يساهم في أغراء المتلقي للتعمق في الطبقات الرمزية للسرد وكشف الحقائق المخفية.
3 - ترتبط السريالية والغرابة ارتباطًا وثيقًا بالواقعية السحرية، لأنها تتحدى المفاهيم التقليدية للواقع وتثير شعورًا بالدهشة والقلق. إذ ينتج عن دمج العناصر السريالية والأحداثً الغريبة خلق إحساس بالعالم الآخر، مما يؤدي إلى كسر المألوف والتشكيك في حدود ما هو واقعي.
4 - غالبًا ما تستخدم الواقعية السحرية كوسيلة للنقد الاجتماعي، فمن خلال العدسة الخيالية، يتم استكشاف القضايا الاجتماعية المختلفة، مثل عدم المساواة، والتحيز، وديناميكيات السلطة داخل المجتمع ، ومن خلال تشابك السحر والواقع، تقدم الرواية أو القصة منظورًا فريدًا حول هذه القضايا.
5 - تعتبر قوة الخيال من أهم الأدوات المؤثرة في الواقعية السحرية، فهو يسمح للشخصيات بتجاوز حدود الواقع واستكشاف إمكانيات جديدة قادرة على إعادة تعريف وتشكيل تصور واقع يتجاوز حدود الحياة اليومية الرتيبة للفرد والمجتمع.
6 - تعكس روايات الواقعية السحرية صورة للهوية الثقافية للمجتمع، من خلال استخدام المؤلف لعناصر من الفولكلور الثقافي والأساطير، ونسجها في البنية السردية، وهي بذلك تحتفي بثراء التجارب الإنسانية وتنوعها.
لم تنحصر كتابة روايات الواقعية السحرية على الأدب اللاتيني، بل أصبح لها حضور واسع في الأدب العالمي، كما حظي الأدب العربي بعدة تجارب متميزة استثمرت هذا الأسلوب المثير، ويمكن أن نشير كمثال لذلك إلى رواية “ليالي ألف ليلة” لنجيب محفوظ، ورواية “الشطار” لخيري شلبي، و”الغجرية ويوسف المخزنجي” لإدوار الخراط، و”عاشق الحي” ليوسف أبو رية، ورواية “عبد الله يقرأ طول الليل وبشرى تكتب طول الليل” لمحمد خيري حلمي، ورواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد السعداوي وغير ذلك مما يصعب استقصاؤه.