عدنان الفضلي
المشغل السردي لدى خضير فليح لا يتوقف عند حدّ معين، ولا يعترف بما يسميها البعض التقاليد والسياقات في الكتابة، فهو من الكتّاب المتمردين على السائد والمألوف في صنع الأحداث وخلق الشخصيات التي يريدها مسيطرة على تلك الأحداثيات، من دون تدخلات المنطق، فهو خالق آخر يمنح مخلوقاته من لدنه بصيرة تحميها في الانزلاق في مستنقعات الثرثرة والسذاجة السردية.
في روايته الأخيرة "بنات غائب طعمة فرمان"، والتي يقول عنها الزيدي إنها الرواية التي أخذت منه أطول وقت لكتابتها من بين شقيقاتها الأخريات، كانت هناك"فنطازيا" عارمة وجملة من الاستدعاءات المبكرة التي قام بها، قبل أن يمنح شخوصاً ميتين الحياة من جديد بأمر من مخيلته المتقدة.
يقول خضير فليح الزيدي في مقدمة كتبها لهذه النص السردي وألقاها في جلسة أقامها اتحاد الأدباء "هذه الرواية كان الاشتغال فيها هندسياً دقيقاً، بمعنى هناك حسبة خوارزمية دقيقة، تكون فيها مسطرة القياس هي المتحكمة من حيث رشاقة وحيوية أداء اللغة المنتقاة وحسبة الحوار والصمت الحواري".
وعليه سنتكلم عن تلك الحسبة التي بدأت بافتراض أن الروائي الكبير الراحل "غائب طعمة فرمان" لم يمت وأنه كان يعيش غيبوبة في منفاه القسري "روسيا"، وحين عاد من غيبوته قرر العودة إلى وطنه الأصلي العراق، وتحديداً العاصمة بغداد بعد أن تلقى دعوة من شخوص رواياته، لتصحيح أوضاعهم الحياتية بعد أن تغيرت الأزمنة وصار الواقع في العراق لا يطاق، بعد أن تحوّل إلى الفوضى العارمة التي تسبب بفقدان المجتمع لقيمه وعاداته وتقاليده، ويتحقق ذلك بلقاء الشخصيات أمثال "سليمة" و "صاحب البايسكلجي و"بنات البيرقدار" والشخصية المنفعلة"كريم"، الذي يخاطب غائب بغضب "لقد أجرمت بحقي أيَّها المؤلف حين تركتني في صفائح بغداد، دائخاً ومرعوباً وهربت وجعلت آمنة تفرّ من شباكي وتركتني وحيداً".
الزيدي في هذه الرواية أراد أن يعود مجرباً من خلال صياغة أحداث لا ترتبط بأحداث ما جرى مع مجتمع غائب، بل أراد اسقاط الواقع العراقي الراهن في عمق الرواية مستعيناً بشخوص غائب وإضافة شخوص آخرين.
يطرح الزيدي في هذه الرواية عدة أسئلة ويترك تعالقاً من مجتمعنا الحالي ومجتمع غائب في خمسينيات القرن الماضي، لكنه وكما يبدو أراد طرح السؤال المهم والأهم وهو: لو أنك عدت يا غائب كيف يمكنك أن تتعايش مع هذا الواقع البليد الذي يعيشه مجتمع ما بعد 2003 وكيف
ستتصرف؟.
كثيرة هي الأحداث في هذه الرواية وكثر هم أبطال الحكاية، لكن الزيدي ركّز كثيراً على الشخصيات الهامشية التي جعلها تعيش الزمنين، زمنه وزمن غائب، فهو يوالف ما بين شخصيات القاع في المجتمع على شاكلة"هاني بارت" وشخصيات المجتمع البرجوازي على شاكلة "عائلة البيرقدار"، التي تمتلك مصنعاً للأحذية النسائية ويفتح الباب لحوارات متعددة تناقش ما يحدث اليوم وماحدث بالأمس البعيد، حتى أنك تشعر أن ثمة حوارا خفيا ما بين غائب طعمة فرمان وخضير فليح الزيدي يغوص في أعماق ما كان وما يحدث الآن.