ابتهال بليبل
تحاول سارة لوكاس أن تدمج كل العناصر المتاحة لها في تشكيل مَرئيّ صادم، على الرغم من أنه موجود في (حيز) الممكن البصريّ، ويمكن لمسه والدوران من حوله، إلاّ أنه غير موجود في الحيز المنطقي، فالماهية التي تريد أن تزجها في عقل المتلقي غير مرتبطة بـ (وجود) منطقي بقدر وجودها بتأويل متصل بقبول جهة التلقي له، ومن ثمّ محاولة وصله بما يضارعه من افتراض. لذا تبدو أعمالها الصادمة محفزةّ للخيال وتدعونا للدهشة والانبهار، ومن ثمّ التأمّل البنّاء، إذ سنكتشف خيوطا ما تربطنا بهذا العالم العابث الذي تصنعه، بل سنتكشف أنه عالمنا الذي نعيش فيه، لكنه هنا من وجهة نظر مختلفة.
فعلى طاولة صقيلة نرى "فانيلة" رياضية بيضاء، ابتعدت عن مهمتها الرئيسة في تغطية أجساد البشر، وصارت الآن جاثمة كشرشف فوق خشبة طاولة معدة للطعام أو للتفاوض أو للعراك.. هذه "الفانيلة" يتدلى منها برتقالتين، نحو الأسفل بفعل الجاذبية أو ضغط اللغة التي احتاجت هنا للتأنيث.. لتتناغم (طاولة -فانيلة-برتقالة) هل هما أثداء، تورمات، أم ترسبات حوار، أو طعام بائت كان على الظهر قبل أن يكب هنا!
سارة لوكاس الفنانة البريطانية التي اشتهرت بالتركيبات الاستفزازية العنيفة والقوالب الهجينة الشاذة وصور الأشياء المحطمة، تريدنا أن نشعر بأن مهمة عمل الأشياء التي اعتدنا عليها في حياتنا بشكل عام وروتيني خاطئ بقدر ما هي صائبة، وإن كل ما نعرفه عنها لا يدفعنا في واقع الأمر للاقتراب من استيعاب المهمة الأساس لهذه الأشياء مثل: المفاتيح، والقضبان السلكية، والقمصان والجوارب، والجدران والزجاج،
والكؤوس والمواقد والحطب، والنحاس، والكتل الخرسانية وغير ذلك من تفاصيل تحاول اللعب بأشكالها وتغيير الأعراف والقوالب النمطية المحيطة بنا. هذه هي تماما بعض التعقيدات التي يمكن أن تواجه المرء في محاولته تعريف الفن المستعمل، الذي يبدو عند لوكاس عملا تخيليا أصلا، ولكنه في الكثير من المرات هو عبارة عن نوازع الشك والعدوانية التي تترك المتلقي، وهو ممتلئا بالتقزز والاشمئزاز إزاء كل شيء له أهمية في الحياة، حتى تتزايد التوقعات الخائبة تجاه القدرة على إدانة أفكارنا المعتادة.
أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو أعمالها التي تعرض جوارب شفافة وبعضها ملونة كبيرة الحجم، وتحشو داخلها القماش وربما القطن، حيث تأخذنا أشكالها الإيحائية.. أجساد أنثوية موحية، نحو هذا التجاور وكأنه يشرح ديناميكيات السلطة والجسد الأنثوي وعلاقته بمرتكزات الحياة التي تتحكم بالعلاقات البشريّة.
الخروج من التجوال في عالمها، يجعل من المتلقي شارداً بحواسه كلها، فهي تجعله في وجل وخوف وشَكّ من امكانياته المعرفية التي ستختبرها الرموز الخصبة والكثيفة التي ستكون حاضرة في ذهنه، وهو يحاول أن تدخل إلى تفسيرات مطمئنة عن هذا الفن الذي يحتوي المتلقي في رؤاه ويدفعه للحوار الدائم مع ذاته، وصولاً إلى غاية الفن الكبرى، وهو التطهير من كل فكرة فائضة والاتجاه نحو العمق والتقبّل والمحبة.