اللغة الماورية
باسم فرات
تنتمي اللغة الـماورية إلى عائلة اللغات البولينزية التي تحوي على أكثر من 700 لغة من مدغشقر غربا إلى جزيرة الفصح «إستير» في غرب تشيلي، وشمالا من هاوايي لتمتد جنوبًا حتى زي الجديدة «نيوزلندا»، وهي فرع من مجموعة اللغات الأوسترونية، التي تحوي أكثر من 1200 لغة، وهي أكبر مجموعة أو عائلة لغات في العالم وتنتشر في أندونسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وجنوب شرق آسيا.
هناك عدة آراء على هجرة الـماوريين إلى زي الجديدة، متى ومن أين جاءوا، لكن الرأي الـمرجح أنهم وصلوا من بعد عام 1315 ميلادية، أي بعد البركان الأكبر، بركان جبل «تاراويرا» الواقع جنوب شرق مدينة «روتوروّا» بحوالي 24 كيلومتـرًا. لكن تبقى سرديات الـمجموعات اللغوية الشفاهية عرضة للنقد والتشكيك، لأنها غير مدعومة علميًّا، والـماوريون قريبون لجزر كوك وجزر سوسايَتي.
الـلغة الـماورية استعارت عديداً من الكلمات من الإنجليزية ولغات أخرى بما فيها اللغة الفرنسية، مثلًا كلمة «عسل» استعارتها من اللغة الفرنسية، لكن تبقى اللغة الإنجليزية الـمهيمن الأكبر، وهي تحوي لهجات كثيرة، ولكنها مفهومة عند الجميع، وتتميز اللهجة الـماورية في إقليم تَرَناكي بأنها قريبة جدًّا للغات الأجزاء الجنوبية من جزر كوك.
تعرفت أن أول مرة يتم فيها حق الانتخاب والترشيح للماوريين في مجلس النواب كان عام 1867 ميلادية، ومنحو أربعة مقاعد، في أثناء انعقاد جلسة مجلس النواب، كان على الأقل أحد هؤلاء النواب الأربعة بحاجة لـمترجم من الإنجليزية إلى الـماورية وبالعكس، كيف يفهم ما يدور في الـمجلس ويشارك في النقاش؛ حين سمعتُ هذا التاريخ (1867) تبسمت، وقلتُ لصاحبي إن هذا التاريخ سبق ولادتي بمئة عام.
كان 90 بالمئة من الـماوريين يتحدثون اللغة الـماورية عام 1913 ميلادية، لكن ما بين عامي 1973 – 1978 ميلادية، كانت نتائج البحث الـميداني الذي أجري على أكثر من 350 تجمعًا ماوريًّا في الجزيرة الشمالية، حيث يقيم أغلب الـماوريين مُخيّبة للآمال جدًّا، إذ وجدوا سبعة تجمعات أو مستوطنات ماورية صغيرة تتكلم اللغة الـماورية فيما بينها، أي بوصفها لغة التخاطب، وهذه التجمعات تقع في وسط أرض الشمال (أقصى شمال الجزيرة الشمالية) وفي شرق خليج بلنتي، في أقصى الشمال الشرقي.
في الأربعينيات والخمسينيات أدّت هجرة أعداد كبيرة من الـماوريين من الريف إلى الـمدينة، إلى انتكاسة كبيرة في التحدث باللغة الـماورية في البلاد، فكثير من الـماوريين ونتيجة «الإبادة الثقافية» التي تعرضوا لها، صار كل فرد بينهم يسخر من لهجة الآخر، فصاروا يحتمون باللغة الإنجليزية لغة الـمحتل، حفاظًا على مشاعرهم، وهو ما نراه واضحًا في وطننا العربي حيث الناس راحت تـكثر من الكلمات الإنجليزية، وكذلك أدّت الهجرة الهائلة من الريف إلى المدينة إلى تدني الاقتصاد الزراعي، وضياع الكثير من تراثنا الريفي الشفاهي على امتداد الوطن العربي.
الـمبشرون في النصف الأول من القَرن التاسع عشر، حاولوا جعل الـماوريين يقرأون ويكتبون بلغتهم من أجل تقريبهم للعقيدة الـمسيحية، بعد أن كانوا أقوامًا شفاهية، وأقيمت الـمدارس الدينية باللغة الـماورية، حتى عام 1858 ميلادية، حين قررت الحكومة أن لا دعم للـمدارس الـمسيحية التي ليست باللغة الإنجليزية، وهذه كانت بداية علاقة اللغة الإنجليزية في البلاد.
إن كلمة (مانا) باللغة الـماورية، تختصر مجموعة كلمات، مثل الهيبة والنزاهة والاحترام والسطوة. أما كلمة (تابو) – الباء أعجمية – فإن كثيرًا من الـماوريين يجهلون قوانين ثقافتهم وأعرافهم، ولهذا هم يعرفون كلمة «تابو» ولكن لا يعرفون عملها بالضبط، أي أين يجب أن تفعل هذا ولا تفعل ذاك، مثلا «تابو» عند الـماوريين، تعني العبور على شخص نائم، ويُعَدّ الرأس أكثر عضوًا في جسم الإنسان «تابو». «كاراكيا» باللغة الماورية، تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية بمعنى «صلاة» ولكنها في حقيقتها ليست كذلك دائمًا، ومع دخول الأوربيين وانتشار التبشير المسيحي، أضيفت كلمة «آمين» لنهاية الكاراكيا.
وفي عام 1877 ميلادية، تَقدّم 331 ماوريًّا بطلب التماس «مذكرة» إلى مجلس النواب النيوزلندي، لجعل اللغة الإنجليزية في مناطقهم هي لغة التعليم، وليست اللغة الـماورية، وقد يستغرب القارئ من هذا التصرف، لكنه في جوهره ليس غريبًا، فالـمنتصر ليس الذي ينتصر في أرض الـمعركة فقط، بل الانتصارات الـمتتالية التي يحققها ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا بعد ذلك، مثله مثل الـمحتل، فليس الغزاة مَن جاؤوا بجيوشهم واحتلوا البلاد أو جُزءًا منها فقط، بل كل مَن ينسب مدنًا وبلدات له ومعظم ما كتب فيها قبل القَرن العشرين ليس بلغتهم وليس بإمكانه الحديث عن ثلاثين شاعرًا وأديبًا وكاتبًا وُلدوا في هذه الـمدن والبلدات وأريافها قبل الحرب العالمية الأولى بثلاثة قرون، وينسبها له ويتوهم تاريخًا عريقًا بها يُرَحِّلُه بأوهامه إلى آلاف السنين.
ما فعله هؤلاء الـماوريون الـ 331 نفعله اليوم عبر الـمدارس الدولية، ونبذ اللغة العربية، بالتفيهق بمفردات إنجليزية وفرنسية بمناسبة وبغير مناسبة، ونحن جالسون في بلادنا العربية لم نتحرك منها إلّا لرحلات قصيرة سياحية أو تجارية أو طبية أو معيشية، أقول هذا لأني أتفهم الذين يقيمون في بلدان ناطقة بالإنجليزية فتفلت منهم كلمات في أثناء الحديث. احترام اللغة الوطنية الأولى وصاحبة التراث الأكبر دليل حس واعٍ ونزوع إنسانيّ يحترم جهود الأسلاف.
فالـمدارس الـماورية بدأت في ثمانينيات القَرن العشرين، وهذا يعني أن اللغة الـماورية شبه مُغـيّبة في الـمدارس وفي البلاد ما بين منتصف القَرن التاسع عشر وحتى نهايات القَرن العشرين، ولأن اللغة الإنجليزية هي لغة المخاطبات والتجارة والشارع والاعلام والأسواق، فإن الأطفال يتحدثون كلمات ماورية بقواعد اللغة الإنجليزية، فبدلًا من القول: ذهبتُ إلى الـمدرسة، تصبح: أنا ذهبَ إلى الـمدرسة، وهذه نتيجة تأثير المحيط عليهم، وكانت أول دورة تعلم لغة ماورية في الـجامعة كانت في عام 1951 ميلادية، وفي عام 1972 وَقّعَ أكثر من ثلاثين ألف شخص لمطالبة الحكومة النيوزلندية بجعل اللغة الماورية لغة في المدارس، وبعد عقد ونصف أي في عام 1987 أصبحت اللغة الـماورية لغة رسمية، في حين اللغة الإنجليزية حتى الآن ليست لغة رسمية، وفي الواقع فإنّ الإنجليزية هي اللغة الوحيدة التي لا يمكن لأي شخص الدخول إلى الـمدارس أو الحصول على العمل بدون معرفتها معرفة جيدة.
وفي عام 1995 أظهرت نتائج البحث الـميداني على 2441 ماوريًّا، من عمر 16 عامًا وأكثر، أن 4 بالمئة فقط لا غير، يتحدثون اللغة الـماورية بطلاقة، لكن وثيقة حكومية مؤرخة في عام 2009 ميلادية، تشير إلى أن 35 بالمئة من الـماوريين يتحدثون اللغة الـماورية بطلاقةٍ، وهو ما يدل على تقدم كبير للغة الـماورية بين الـماوريين، كذلك فإن الحكومة النيوزلندية تدعم كثيرًا اللغة الـماورية بوصفها لغة سكان البلاد القدماء.
إنَّ أول رواية باللغة الـماورية كانت عام 2002 ميلادية، حتى الآن لا توجد كتابات كثيرة باللغة الـماورية، وعلى الأغلب فإنّ السبب هو عددهم الصغير الذي تشير مصادر الإحصاء السكاني لعام 2022 ميلادية أنه 892 ألف نسمة، وإنَّ نسبة كبيرة من هؤلاء إن لم يكن يجهل اللغة الـماورية، فهو يتحدثها فقط ولا يقرأ بها. وحين نضيف هيمنة اللغة الإنجليزية محليًّا وعالميًّا، لغة الـمنتصر فإن الدوافع للكُتّاب والشعراء والأدباء الـماوريين للكتابة باللغة الـماورية تتضاءل، وهو ما جعل اللغة الـماورية لغةً شفاهية على الرغم من مرور ما يقارب من مِئَتَي سنة على بدء الـمبشرين البريطانيين بتحويلها من لغة شفاهية إلى لغة تدوينية، لكنها في الحقيقة بقيت لغة كتابية على نطاق ضيق، ولم تحقق ما حققته عشرات اللغات الشفاهية في العالم، حتى التي بدأ التدوين فيها في النصف الأول من القَرن العشرين إن لم يكن قبيل منتصفه.
هناك محاولات واضحة لـمورنة الكلمات الحديثة، أي جعلها باللغة الـماورية، مثل محكمة، ورياضة، وتقانة «تكنولوجي»، وحاسوب، ومدرسة، وجامعة، وغيرها الكثير من الكلمات، في حين - وهذا ما يؤسف له - في ثقافتنا العربية وعلى الرغم من التاريخ التدويني العريق لها وغزارته وتنوعه، وأنها - أي اللغة العربية – صاحبة أكبر منجز تدويني تراثي بين لغات العالم كافة، فإن كثيرًا من متعلميها و»مثقفيها» يصرون على استعمال كلمات أجنبية، على الرغم من وجود الـمقابل العربي لها، مثل الحاسوب والهاتف والتقانة والإعلام والخلوي أو الجوال، كذلك لغة مواقع التواصل الاجتماعي مثل كلمات رابط، وتعليق، وإعجاب وغيرها الكثير، بل صارت الرطانة بكلمات إنجليزية وفرنسية دليل تحضر وتمدن وَرُقِيّ زائف، وهو في جوهره على النقيض تمامًا.