تجارب عربيَّة وعالميَّة.. رواية المشاركة القرائيّة

ثقافة 2023/12/06
...

 باسم عبد الحميد حمودي

من عادتي عندما أضع رواية ما، قصد القراءة أن أقلب صفحاتها بسرعة، وأن أقف أحيانا عند النهاية بعد مطالعة سريعة للبدايات، فالروايات اليوم عالمي السحري المقيم معي يوميا والتجارب الروائيَّة، تأتيني من كل مكان وعلى المرء أن ينتقي ليقرأ ويختار للقارئ الأهم والأكثر تأثيرا.في رواية أحمد خلف الجديدة الصادرة عن إتحاد الأدباء في العراق تحت عنوان (في الطريق إليك) لم أفعل هذا، بل أنصرفت إلى الصفحات الأولى من الرواية، وأنا.. أفكر أيضا في طبيعة العنوان.. من هو هذا الذي في الطريق؟

كان المؤلف يربط في روايته بين تجربتين حكائيتين عن الموت والحياة في زمنين منفصلين، ويحرك زمنيهما كما يبتغي من دون إندماج ظاهري.

يقول ليو كيتس في مقالته التي ترجمها لنا د. فارس غازي المدرس في جريدة الصباح العراقية في العدد الصادر في 17 -9-2023 تحت عنوان (حينما كانت الروايات خطيرة) إنه عند قرائتك للرواية (تقوم البرمجة العقليّة بتحول جزء من عقلك إلى محاكاة غامضة لعقل المؤلف) أي أن يقوم القارئ هنا بالمشاركة في التخييل.في عام 1921، وعلى مسرح فالي في روما عرضت مسرحية لويجي بيراندللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) وكانت ضربة مسرحية للايهام ودخول القارئ البطل داخل النص - ثم التجسيد المسرحي- وقد قدمت مراراً على مسارح العالم للفانتازيا التي تحملها ولنقدها لروح العصر.

في أيامنا هذه كتب أوهان باموك كتابه الذي ترجمته ميادة خليل تحت عنوان (الروائي الساذج والحساس) ونشرته دار الجمل حديثا.

ويخيل لي أن باموك هنا لا يقصد الإشارة إلى سذاجة الكاتب غير المؤهل، بل إلى براءة وسذاجة القارئ الذي يتماهى مع أحداث العمل الذي يقرأ، ويحاول أن يكون جزءا من تجربته ذهنيا.

هنا يقول باموك (إن الروايات في جوهرها، هي خيال أدبي بصري، ولكن قد تستمد من واقع الحياة)،   وهو بذلك يقصد أمكانية أن تصنع الرواية من مهاد مسرحي حياتي حقيقي  يضع المؤلف عليه امكاناته الفنية ليقدم نموذجا سرديا غنياً.في رواية مشتركة للاستاذ حكمت الحاج والاستاذة عواطف محجوب، صدرت حديثا بعنوان (غَمسِس) وضع المؤلفان مقدمة وافية عن طبيعة الروايات التشاركية، وأشارا فيها إلى تجارب عربيَّة معروفة لجبرا ومنيف وسواهما، ونسيا تجربة طه حسين وتوفيق الحكيم في (شهرزاد) ثم اثبتا قائمة بالكتابات الاوربية الروائية المشتركة، وهي كثيرة أبرزها رواية مخطوطة شوبان- لجيفري ديفز، ومجموعة مرلفين وهي من النوع المسمى Joint N oveL.بعد هذا أورد المؤلفان أسماء عشرات التجارب في هذا الحقل.. فماذا عن تجربة أحمد خلف التشاركية هنا؟ أنه يريد أوسع من هذه التجارب.في لعبته الدرامية الجديدة، وهو يقدم تجربتين حكائيتين في عصرين متباعدين، طالبا من القارئ في النهاية (الموجهة الرواية إلى طريقه) الدخول وصنع النهاية التي يريد.

قام أحمد خلف بكتابة النص الروائي بجناحين تاريخيين دراميين منفصلين، ظاهرا وطلب من القراء أكمال التجربة.. هل يصح هذا؟ هل ينجح فعلا؟ لنتابع مالذي فعله الروائي أولا: فصول الرواية الأساسية تتبادل الزيارات، إذ ينتهي فصل من فصول الحداثة بوجود مناخ الصحافة العراقي التسعيني، والحرب وفرار بعض الجنود، ومطاردة السلطات لهم والقبض عليهم، وكان (آدم) واحدا من هؤلاء الذين ملوا الحرب وطول أمدها واستشهاد الكثير من زملائه، ففر من الجبهة مستخدما هويات مزورة متعددة. في وقت كان فيه صديقه سعيد (الصحفي بالقطعة) واحدا من ملاذات آدم، هو وحميد المختار وشوقي كريم وجان دمو.. وسائر زمرة التجديد السبعيني – الثمانيني، عدا جان (صاحب السن الواحد) الستيني المشاكس.يخوض سعيد تجارب الصحافة والحب معا، وتهديدات رئيس التحرير لوجود آدم الدائم في الجريدة، وهو متهم ومشبوه بالفرار، وتختزن فصول (سعيد – آدم) هذه المعاناة المؤلمة للشباب، وهم يخشون على حيواتهم ويطمحون إلى نهاية مثلى لحرب مجنونة، في وقت يبني في أحمد خلف تجربة درامية أخرى.. أسطورية اعتمدت مرجعياتها الدرامية على عدة رؤى منها: حكاية الاطار في ألف ليلة وليلة (الملكة زبرجد والعبد هنا) وزوجة شهريار الأولى هناك- وزبرجد لا تروي حكاية، بل تخون مع العبد فيقتلان.

يبقى شبح الملكة القتيل الدامي دائرا في غرفة نوم الملك وحدائق قصره الذي تطارده الاشباح فيه، حيث تتماهى حكايته مع مرجعية شكسبير، وهو يقدم هاملت الابن الذي قتل عمه والده بالمشاركة مع الملكة الوالدة فيبرز له ليلا.. شبحا يكشف الحقيقة التي يعرفها تاريخ الدانمارك، ويقدمها شكسبير في مسرحيته المعروفة، لكن الملك (قاتل زبرجد وعشيقها) يصاب بريبة القتل الظالم وسط صياح شبح زبرجرد، تدخل الساحة الروائية هنا الشابة (رباب) ابنة الوزير، لتستبدل زبرجرد وعبدها وعشيقها بحكاية حب جديدة، تخفف من أحزان وريبة الماضي، حيث تعيش رباب أيضا حكاية حب مع محمود قلب الأسد قائد حماية الملك الجديد، حيث تتكرر العلاقة بين الملكة الجديدة ومحمود، لكنها علاقة مبنية على الوجد والمخاتلة ورسم الخطط للقضاء على الملك السادر في الظلم والقتل.يكتشف الملك بعض مظاهر الخيانة وهو يحاول التخلص من مؤامرات القصر بالزواج من البدوية الجميلة ابتهاج، ويطلب من زوجته الثانية تنظيم حفل الزواج.. وقبل أن يتم ذلك يشعر باستمرار التآمر عليه من  رباب التي يحبها وحارسه فيتخلص منه، وفي سورة جنون غريبة يدرك فيها أن طاقة القتل والحب قائمة، يقوم باحتضان رباب وقتلها بسيفه منتحرا معها، ليتخلص من هاجس الخوف والريبة والشكوك، ويكون الألم الخاص بالانتحار وسيلة للنصر علة الارتياب واستمرار دوامة القتل.

في الحكاية المرادفة (آدم – سعيد) وتوابعها العصرية وقت الحرب الطويلة الدامية يقبض على (آدم) ولا تفيد محاولات سعيد في إنقاذه، لكن القدر الروائي يجعله محمولا إلى وحدته لمحاكمته بسيارة عسكرية، تتعرض لحادث تنقلب فيه، ويحمل آدم إلى مستشفى الرشيد العسكري لتضيع معالم قضيته.في الصفحتين الروائيتين، الصفحة العصرية والصحفة الأسطورية التاريخية، تبرز نماذج الظلم وجرائم السلطة، ومؤامرات القصور، ولكن مالذي يجمع التجربتين؟ وهل يستطيع القارئ فعلا أن يصنع إضافات روائية لحدثين روائيين مفتوحين في عالمين منفصلين: ظاهرا عصريا، وتاريخيا، وهما متشابهان في رسم صور القسوة والظلم؟

 (في الطريق إليك) هنا في نهاية الرواية، تبدأ مسؤولية القارئ اللبيب.. فقد وضع المؤلف بقية المخيال السردي على عاتقه.