الممارسة الفلسفيَّة
د. حيدر عبد السادة جودة
على الرغم من المواقف السلبية للسانيات التوليدية من الفلسفة السيميائية، إلا أن الأخيرة تبقى علامة فارقة في تاريخ التفلسف حول اللغة، لأنها أسهبت في مناقشة الموضوعات الرئيسة لفلسفة اللغة (العلامة، الدلالة، الاستعارة، الرمز)، فضلا عن كون (العلامة) تشكل أهمَّ القضايا الفلسفيَّة التي طرحها العقل الإنسانيّ، فهي شيء مادي محسوس، ولكنها ترتبط في الوقت نفسه بالدلالة من حيث أنها تصور ذهني لأشياء موجودة في العالم الخارجي، على أن مفهوم (العلامة)، ليس وقفاً على اللسانيات، وإنما يضرب بجذوره في تاريخ التفكير الفلسفيّ بجميع مشاربه الثقافيّة.
ويُعدُّ الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو، من أكثر المهتمين والمؤسسين لـ (السيمياء)، ففي كتابه عن السيميائية وفلسفة اللغة، يرى أن إدراك الأشياء علامات تحيل المرء إلى ممارسة فلسفية لا محالة، باعتبار أن الفلسفة تأمل في واقع. وهذا الأخير لا يدرك إلا بواسطة علامات تعد وسيطاً بين الواقع المادي والعوالم الميتافيزيقية؛ وهو ينظر، تحديداً في كتابه (العلامة- تحليل المفهوم وتاريخيه) إلى العلامة، بأنها: المادة الإنسانية التي يستعملها من أجل التواصل مع الكائنات الأخرى.
أو هي أداة لتنظيم التجربة الإنسانية، مرتبطة بكل الأشياء، وفي حدود أن كل الأشياء تمثل أما جوهراً كونياً وأما فردياً خالصاً. وهي كل ما يحمل مفهوماً محدداً عن موضوع في أي شكل من الأشكال بمقدارها تكون حاملة للفكرة المألوفة لنا، والتي بواسطتها تتركب الموضوعات وتتفكك باستمرار، وهي ذلك الشيء الذي ينفتح دائماً على شيء آخر.
ولا يمكن الحديث عن (العلامة/ السيمياء) ما لم يتم الحديث عن (الدلالة)، باعتبار الأخير إحدى المفاهيم المركزية التي تنظم النشاط السيميائي. ولها معانٍ عدة، لا تخرج عن كونها تشير إلى المعنى، فهي علم المعنى، أو علم معاني الكلمات، وهي –بحسب جيرار دولودال- ذلك العلم الذي يدرس المعنى، أو ذلك العلم الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز، حتى يصبح قادراً على حمل المعنى.
ويرى (إيكو) في الدلالة، المكوّن الثانوي للعلامة، وهي ليست إلا حصيلة تفاعل مجموع تلك المكونات التي تمتلك طبيعة الفكرة، وبالتالي يقترح (إيكو) تقييد الدلالة ضمن حدود (المؤول) ومراعاة الدلالة داخل فعل العلامة، وحيث يجد فعل العلامة في العالم الداخلي والخارجي مجالاً للممارسة التي تفصل بين دلالات الرمز ومعاني العلامات على التوالي، وبهذا تتحقق التفكيكية للمدلول المتعالي، على أن تبقى الدلالة بهذا مرادفة لـ (المؤول) العام للعلامة، كل ذلك قد لا يناقض حقيقة وجود دلالة أولية إدراكية كانت أو سلوكية، تتبلور عنها الدلالات المفتوحة شيئاً فشيئاً.ويحدّها (أيكو) بعدة تعريفات توضيحية، منها: ما هي قابلة للتأويل، أو هي التي تحدد على أكثر تقدير المكان الذي يمكن أن يحتله الحساب الاستعاري. وهي سيرورة في المقام الأول، دالة لوجود علاقات فيما بينها؛ وهي مستويات في المقام الثاني، لأنها محكومة في وجودها بالسياقات التي تخلقها هذه الممارسة. وهي تمرعبر النصوص التي هي الموضع المُولَد منه المعنى، ويولَد فيه الممارسة الدلالية.أما الرمز، في ترسانة الفكر السيميائي، فهو تجسيد رابط دلالي بين عنصرين، وهو كلمة تمثل شيئاً بموجبه علاقة تقاربية، وهو من طبيعة أيقونية تصويرية، وإن مشاركة الوعي في هذا العالم لا تتم إلا من خلال الرموز التي تحدد عمق إنسانية الإنسان، وهو التصور الذي تحتضنه المقاربة السيميائية. لقد كان اهتمام (إيكو) واضحاً بالرمز والرمزية، ويتضح ذلك جلياً في تخصيصه باباً حول الصيغة الرمزية في كتاب (السيميائية وفلسفة اللغة)، وقدّم من خلاله الرمز في مختلف آفاقه، ويعتبر (أيكو) الرمزية سيميائية، فيقول إن الإنسان لا يستطيع التفكير إلا بواسطة الكلمات، أو رموز أخرى خارجة عنه، فكذلك تستطيع هذه الرموز أن تردد له قائلة: «إنك لن تستطيع أن تقول شيئاً ما لم تكن قد لقناك إياها، ولا تستطيع أن تنتج دلالة إلا بمقدار قدرتك على تعبئة كلمة هي بمثابة مؤول لفكرك»، وقبل كل شيء- بحسب إيكو- توجد هناك نظريات تماثل فضاء الرمز مع الفضاء الذي نسمعه اليوم، على أن يُعرف بـ (السيميائية).
ويؤكد الزواوي بغورة في كتابه عن (العلامة والرمز في الفلسفة المعاصرة) أن الرمز عند (إيكو) هو صفة العلامة ذات التكوين الصعب، بحيث أن أي تحويل في الطبيعة الشكلية للرمز قد يؤدي إلى تحوير في مدلوله، ومن ثم فإن كل رمز هو علامة توحي بمعنى غير مباشر ومتخيل؛ لذلك يذهب البعض إلى أن الرمز هو انفصال عن الواقع، وليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة ترميزية قادت الإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب والزمان، ليخلف أشكالاً هي أداته في إدراك الكون.
إلّا أن الرمز لا يكون - بالضرورة- طريقة إنتاج، لكنه في جميع الأحوال طريقة استعمال النص، ويمكن تطبيقه على أي نص وعلى أي نوع من العلامة، بمقتضى قرار تداولي، ويحدث على مستوى الدلالة وظيفة سيميائية جديدة، تضيف إلى عبارات ذات مضمون تسنن أجزاء جديدة من المضمون، لم يحددها المتلقي تماماً، ولم يضعها، وتكمن خصوصية الرمز- كما يحددها إيكو في السيميائية- في أنه إذا ما عدّلنا في تطبيقه، فإن النص يحتفظ بمعنى مستقل على المستوى الحرفي والمجازي والبلاغي.وتتميز السيميائية بحديث أمبرتو إيكو عن نظام (الاستعارة)، كونها تشكّل المفصل الأساس في الحديث عن العلامة، ويشترط في الناطق بالاستعارة أن يكون واعياً بالمعنى الحرفي، حتى يتمكن من الإمساك بالمعنى الاستعاري، خاصة إذا تعلق الأمر بتلك الاستعارات المشتركة في الاستعمال.ويميز (إيكو) بين الاستعارة المغلقة والاستعارة المفتوحة، إذ تفتقر الأولى لطاقة معرفية، في حين توفر الثانية معرفة واسعة بإمكانات السيمياء في قدرتها على الإحالة، من هنا يبدو سعي (إيكو) في انتقائه للاستعارة التي تقود إلى إبداع دلالي، لا سيما تلك التي تغذي مقولة الانفتاح، لذا الاستعارة تجد اللامعقول في النص وتظهر المدلولات. ويُمكن إيجاز رؤية (أمبرتو إيكو) للاستعارة بالآتي: الاستعارة تستند إلى التأويل، ولا تعوض عبارات بعبارات أخرى، لأنها تضع تعبيرين، كلاهما حاضر، داخل النص. وتُنتج الاستعارة من خلال التفاعل بين المؤول والنص الاستعاري، إذ تأويل الاستعارة لا علاقة له بنوايا المتكلم، ذلك أن الدور الذي يلعبه المؤول في تأويل الاستعارة هو دور هام جداً، بحيث يستطيع أن يؤول محتوى أي ملفوظ استعاري بالطريقة التي يراها مناسبة، شريطة أن تسمح بذلك معارفه الموسوعية. كما وتلعب الاستعارة في قضية الخلق والتأويل، إذ بقدر ما يمكن الابتكار الاستعاري بقدر ما يؤدي إلى طرق العادات البلاغية السابقة، إذ من العسير ابتكار استعارة جديدة مستندة إلى قواعد معروفة. والاستعارة بمجرد ما تؤول فإنها تفرض علينا النظر إلى العالم بطريقة جديدة، ولكن من أجل تأويلها، علينا أن نتساءل كيف ولماذا ترينا العالم بهذه الطريقة الجديدة؟ ففهم الاستعارة شكلٌ لاحق لفهمنا. وأخيراً، تُعدُّ الاستعارة حيلة تمكّن من الحديث مجازياً، فتبعاً لـ (ايكو)، لا يمكن الحديث عن الاستعارة إلا استعارياً، إذ هي أداة معرفية، وهي التي تُمكننا من فهم أفضل السنن.