هشاشة النسق السردي في رواية (نعيم صدام)

ثقافة 2023/12/06
...

رنا صباح خليل 



أخذت السردية العراقية تدون الوجع العراقي في جميع مفاصلها، ما إن أزيل نظام الديكتاتور وتحرر الكاتب العراقي نسبيا من أثر الصدمة والذهول، وهذا يظهر واضحا وجليا في العديد من الروايات التي كتبت بعد عام 2003، حتى أصبح الروائي يلازم هذا الوجع الذي امتد سنوات طويلة في كل صوره، ومن الممكن اعتبار ما كتب في هذا الجانب أرشيفا مصغرا ورمزيا لتاريخ الفرد العراقي على مر ثلاثة عقود، تمثلت تاريخ سلطة دموية تمرست في امتهان الإنسان وإذلاله، ومارست عليه كل أنواع القهر والموت، وما نطالعه في الرواية التي تحمل عنوان (نعيم صدام)، الصادرة عام 2021  عن دار ريادة للدكتور موفق العيثان، لا يخرج عن هذه الدائرة التي أشبعت سردا وإفصاحا في موضوعات متشابهة، كان واعزها وهمها الأكبر الظلم السياسي والاجتماعي والاستبداد السلطوي لحكومة حزب البعث ومؤسساتها في العراق، وهذا يعني أننا قد استفضنا بهذه الموضوعة وبتنا نبحث عن طرق جديدة في طرحها، فما الجديد الذي يقدمه لنا الدكتور موفق العيثان حكايةً وأسلوباً وتقنية بناء؟ هذا السؤال الذي كنت أبحث عنه وأنا أقرأ، وللأسف لم أحظ بشيء سوى قصة شاب عراقي في مقتبل العمر يزج ظلما في السجون، ويتلقى شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ويمر بمخاضات عسيرة واعترافات ليست صحيحة أدلى بها رعبا وخوفا كعادة هذه المواقف في الروايات، ثم بعد ذلك خروجه من المعتقل خاسرا لدراسته وحبيبته وموجعا لأهله ومحبيه. 

كلامنا هذا لا يعني الاستهانة بآلام الناس وأوجاعها واستكثار لملمة شتاتها في رواية تتحدث عن واقع قاس بكل معانيه، ولكننا نبحث عن الأثر الفكري والأثر الوجداني الذي يترسب في دواخلنا بعد الانتهاء من قراءة الرواية، ونحن نتساءل هل لدينا ما نقوله في مناقشة طروحاتها؟ ذلك أن الرواية فن ثقافي بالدرجة الأولى، والكاتب الروائي يحتاج إلى وعي بعالمه، وهو هنا عالم متسع ومتشعب تعمره ثقافات وتداخلات، وعلاقات وصراعات، نشأت في فترة من فترات العراق العصيبة التي يتحتم على المبدع إدراك بنائها، لنجاح بناء عالم روايته، وأن تفتح القراءة لدى المتلقي ما تتشكل منه صيرورة جديدة تحرضه على إعادة التشكيل، عن طريق طاقة استحضار جاذبة يخلقها الروائي حين يخاتل القارئ بتنشئة عوالمه التي لا تخرج عن شروط الإبداع، بل تتماهى مع خط سير البناء الفني وتعي كيف تتشكل الذات والعالم من خلال ذهنية النص، بمعنى أن تكون هناك رؤية مسبقة لمجريات كل حدث، ففي هذه الرواية يتطرق الروائي إلى مسألة مشاهداته لزيارة الرموز الدينية المهمة والمؤثرة في المجتمع العراقي، أمثال السيد الصدر لضريح الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكنه لم ينجح بربطها في ما يدور في الشارع من حمى أفكار دينية مستعرة، وما تجابهه تلك الأفكار من سطوة أيديولوجية مبطنة يمارسها النظام، أو محاولة توظيفها في خدمة الحدث المتمثل باعتقال بطل الروي، فجاءت بطريقة استذكار بسيط في ذهن ذلك الشاب لا أكثر، أي أنها لم تفتح الباب لإحساس المعاناة والتفكير العميق الذي يفلسف الشعور والمناقشة، خاصة أن الشاب المعتقل كان يستذكرها وهو في أشد حالات الامتهان والأسى، أما محاولة الكاتب في وصف المدينة وأجوائها وطقوسها لزج الرواية في خلق يوتوبيا تخرجنا من مأساة ذلك الشاب، فقد جاءت مفتعلة وينقصها المخيال، وذلك يعود إلى أن الكاتب لا يمتلك دمغته الأدبية، وليست لديه آفاق بينة في ما يخص المكان، الإنسان، الذاكرة، الحادثة وغير ذلك، وكل ما له صلة بطريقة أو بأخرى بالبيئة الثقافية في بعدها الواقعي، فجاء حديثه عبارة عن نقل مباشر لما يراه ويسمعه على طريقة من يتحدث في جلسة سمر، وهو ينقاد انقيادا في حكيه، يؤدي إلى ما تفعله الرياح في الكثبان، أي أنه يخلق تشكلا سرديا سريع التطاير، في حين أنه تجاذب في عمله الموروث الشعبي وقدمه على أنه من صنيع ذاكرة محلية بطرق عفوية، لو حاول بجدية النجاح باستثمارها لغة وفكرا وخيالا لمهد الطريق له إلى العمل التوثيقي الذي يتخلل الروي بشروطه الفنية، لا أن تقرأ الرواية ثم تجعد أوراقها وتهمل، لأنها من الناحية الفنية ضعيفة جدا، وهي بحاجة إلى اشتغال مكثف لتطوير أدواتها الكتابية، وفي النهاية أقول لو اكتفى الكاتب بالطرح السطحي لموضوعه الروائي من دون أن يتمسك بشيء من الجرأة الذكية، أي تحريك اللغة بإمكانات فنية قادرة على الإيحاء بسرديات يبتغيها الكاتب في عمله، فإنه سيقع حتما في المباشرة الصارخة بالضعف والرتابة .