فهم الفن التجريدي

ثقافة 2023/12/06
...



فلواريا باينزجير


ترجمة: مظفر لامي



الفن التجريدي يتم تناوله في كثير من الأفكار النظرية، البعض منها يتبنى فكرة (الفن للفن)، والبعض الآخر ينحو نحو تشبيه الفن التشكيلي بالموسيقى؛ حيث ينشأ العمل الفني من أنماط خالصة من الشكل واللون والخط، مثلما هو الحال في الموسيقى التي تتكون من أنماط صوتية. وهناك من لديه اعتقاد بأن الفن التجريدي يحمل بعدا أخلاقيًا، فهو يرمز عندهم لفضائل النقاء والقيم الروحية. وأخيراً ثمة من يستخدم مصطلح (التجريد) أو (غير التصويري) ليميز الفن التصويري عن غيره.
وعند بحثنا في مدى الاختلاف بين الفن التجريدي والتصويري، نجد أن الأول يثير فعاليات ذهنية مختلفة، ويتضمن أنماطاً مرئية تغلب عليها صفة العالمية والانتشار الواسع، في حين يتطلب الثاني النمط الأكثر محلية والأكثر إحاطة وتركيزا على موضوعة العمل. والملاحظ أن عقولنا تتبنى ستراتيجية أكثر استكشافية للبحث عن دلائل بصرية أثناء النظر في الأعمال التجريدية، الأمر الذي يؤدي لتحفيز المناطق الأكثر تعقيدا في أذهاننا. إن ادعاء فهم الفن التجريدي يشبه التظاهر بفهم غموض الكون الذي يتجاوز مداركنا. وعند تعلق الأمر بهذا النوع من الفن فإن المقاربة الأكثر ملاءمة، تكمن في تعلم حسن تقديره، وهذا يحدث حين نكون منفتحين بعقولنا وقلوبنا في استقصائنا عن قرائن في المشاعر والأفكار التي يثيرها فينا، ويمكن أن ندعو ذلك بالنهج العاطفي، لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن الفن بصورة عامة، والفن التجريدي بصورة خاصة، يجب أن يُفسر من خلال سياقه التاريخي. والادعاء بأنه أحد أشكال الفنون العالمية، لا يمنع من كون الأفكار التي تقف وراءه، قد تم إنشاؤها - إلى حد كبير- عبر تراكم عوامل متقاربة في مرحلة زمنية معينة، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بالنهج العقلاني.

بدأت الثورة الكبرى، والانعطافة نحو التجريد مع الحركات الفنية الحديثة المتمثلة بالفنانين الرواد في القرن التاسع عشر (كلود مونيه، بول سيزان، جورج سورات وغيرهم). وهؤلاء تولدت لديهم رغبة شديدة في الابتكار، ليس فقط بسبب عدم قدرة الفن الأكاديمي على تمثيل المجتمع الصناعي، بل لشعورهم بخطر الاختراع الجديد الذي سمي بالتصوير الشمسي. وفي الفترة التي أخذت فيها الصور الأولى للكاميرا تهدد دور الفنانين في تصوير الواقع، بدأ الفنانون المعاصرون رفضهم للمساحة التقليدية ذات الأبعاد الثلاثة، والاستعاضة عنها بمساحات مسطحة أو بقع لونية لإنشاء مساحة تصويرية جديدة. ثم أتى الجيل التالي ليثبت تطرفه وبحثه عن الإلهام بعيدا عن أوربا، وتحديداً في ثقافات القبائل الأفريقية المتوارثة. بينما اهتم فنانو المدرسة الوحشية مثل (هنري ماتيس أو أندرية ديرين) بالنظرية العلمية للألوان واستخدام الألوان الإضافية؛ لخلق التوتر على قماشة اللوحة. وبالنسبة للعديد من فناني المدرسة الوحشية، كان ذلك بمثابة نقطة انطلاق انتقالية للتطورات المستقبلية في أسلوبهم نحو التجريد. 

التكعيبيون جورج براك، بابلو بيكاسو وخوان جريس، اتخذوا أسلوباً جديداً لتصوير موضوع العمل في طبقات من زوايا مشاهدة متعددة. لقد شجع أسلوب التكعيبيين الباريسيين في تفكيك العالم وإعادة تجميعه، العديد من الفنانين الآخرين، خاصة من دول مثل هولندا وروسيا، على المضي قدماً نحو عالم الأشكال، تاركين وراءهم مواضيع الأشياء أو المشاهد التي يمكن التعرف عليها. كان ظهور هذه الأنواع الجديدة من الفن التجريدي أو (غير الموضوعي) قد تزامن مع كارثة الحرب العالمية الأولى، وكانت بالنسبة لمبدعيها بمثابة ثورة معاصرة في المجتمع والوعي، أو هي انبثاق لنظام إنساني متغير.

كان تقييم اللوحة، حتى نهاية القرن التاسع عشر، يعتمد على قدرتها على تمثيل الواقع، ولهذا السبب كان الفنانون في الغالب، ينظرون للموسيقى على أنها فنٌ خالصٌ. أحد هؤلاء، الروسي المولد فاسيلي كاندينسكي 1866، الذي وجد أثناء إقامته في روسيا علاقة مهمة بين اللون والموسيقى. وكان الاعتقاد السائد أنه ممن لديهم ملكة الحس المزامن، تلك القابلية التي تمكن أصحابها من تجاوز النظرة المحدودة للألوان باعتبارها خاصية بصرية للأشياء، والانتقال لربطها بأصوات ذات سمات ومستويات مختلفة. كانت لديه قناعة أن على الرسم أن يؤدي دورا روحيا مثل ما تفعل الموسيقى. وعلى الرغم من أن كاندينسكي قد طور الأساس الفلسفي للفن التجريدي في وقت مبكر من عام 1909، إلا أنه كان مترددا في التخلي عن التصوير. في عام 1911، وبعد حضوره للحفل الموسيقي لأرنولد شوينبيرج، اتخذ عمله منعطفاً جديدا تمامًا، إذ قام، في الأيام التالية بعمل رسومات تخطيطية سريعة لهذا العرض، ثم خفف هذه الرسومات للحد الذي لم يبق سوى آثار للموضوع الأصلي في لوحاته. كذلك كتب (حول الروحانية في الفن)، وهي واحدة من أوائل الأطروحات التي دافعت عن التجريد في الفن التشكيلي، تناول فيها الغرض من الفن، وتأثير الألوان والأشكال في النفس البشرية، وقدرتها على إظهار (عواطف لا يمكن التعبير عنها بالكلمات).

اقتفى فنانون آخرون خطوات كاندينسكي نحو التجريد، لكننا لن نجد نماذج توضح التحول من الرسم التصويري إلى التجريدي بشكل أفضل من أعمال الرسام الهولندي بيت موندريان. فالملاحظ أن افتتان هذا الفنان بالأشجار قد طور لوحاته السابقة للمناظر الطبيعية، لكن استيعابه للتأثيرات التكعيبية جعله يعيد رسم أشجاره بأسلوب تجريدي، ثم بألوان أساسية لاحقًا، تحولت فيها الجذوع والأغصان لشبكة من الخطوط العمودية والأفقية، وعند اعترافه بتأثره بالطبيعة في أعماله أضاف (أسعى للاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة، وأنا أجرد كل شيء من أجل الوصول لأصل الأشياء).

مع تغير الواقع الجيوسياسي بعد الحرب العالمية الثانية، تبدل المشهد الفني العالمي بشكل كبير. وفي وقت مناسب للغاية، وصل العديد من المهاجرين المرتبطين بالحركة السريالية مثل أندرية بريتون، ماكس أرنست ومارسيل دوشامب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي ترك تأثيرا كبيرا لهم في الفنانين الشباب في نيويورك مثل جاكسون بوبوك، مارك روثكو، بارنيت نيومان، أرشيل غوركي والعديد غيرهم، ممن صنفوا بـ(التعبيريين التجريديين)، مع أنهم لم ينتظموا رسمياً في حركة فنية. كانت لدى هؤلاء الفنانين ادعاءات روحية منمقة، وفي كثير من الأحيان يتعرضون للانتقاد بسبب أنانيتهم، لكن ينبغي ألاّ ننسى أن نيومان وروثكو كانا بمثابة استجابة لتاريخ عصرهما. لقد تم سحق الكرامة الإنسانية والتطلعات الروحية بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية، وكان فنهم وسيلة استشفاء من صدمة هذه المأساة الكبرى للبشرية، ومثلما قال بول كلي في عام 1915 ( كلما أصبح العالم أكثر خوفا، ازداد تحول الفن نحو التجريد).