وحيد غانم: {حفلة الصيد الأخيرة} رؤية جمعيَّة لكتابٍ غير محدّد

ثقافة 2023/12/06
...

حاوره: نجاح الجبيلي 



 صدرت للروائي وحيد غانم روايته الجديدة (حفلة الصيد الأخيرة) منشورات غاف- الشارقة. وبهذه المناسبة التقيناه لنحاوره بشأن هذه الرواية تحديدًا ومجمل نظرته إلى كتاباته ومفاهيمه الأدبيَّة. تدور رواية حفلة الصيد الأخيرة حول مضامير سباقات الخيل، أو “ الريسز” الذي شغل مساحة واسعة طيلة عقود، والرواية تتناول الفترة من 1948 في العهد الملكي صعودًا بتداخلات زمنية. يتخللها مساران: واقعي وأسطوري. إنها غوص عميق في تاريخ إنساني مهمل، شديد التعقيد، ومليء بالتراكمات. سبق للكاتب أن نشر رواية “الحلو الهارب إلى مصيره”- دار الجمل- و”الأميرة في رحلة طائر العقل” دار نينوى- و”أعياد الخفاش” دار غاف-إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان “أيام فاقد الحب” دار غاف.


نبدأ بأهمّ عتبتين للرواية وهما العنوان والمقتطف، فالعنوان “حفلة الصيد الأخيرة” أو ما يسمى بثريا النص يفترض أنه يعزز الصلة بالمبنى الحكائي الذي يدور حول سباقات الخيل مع خلفياتها السياسية والاجتماعية وشخصياتها الفاعلة والهامشية، فهل هناك انزياح عن الثيمة تجلى في العنوان؟ أما بالنسبة للعتبة الثانية فهي المقتطف من الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس وكتابه “مدارات حزينة” ما السبب لاختيارك إياه؟ 


أرى أنَّ اختيار العنوان بشكل نهائي يمثل لحظة نضوج العمل. قد تطرأ عناوين مختلفة أثناء عملية الكتابة، وهو ما حصل مع جميع كتاباتي بما فيها الرواية مدار الحوار. إلى وقت متأخر كنت أفكر بعنوان لصيق فرس معينة. أحيانًا يكون علينا الانتظار طويلًا في الطابور للحصول على رغيف ساخن، وقد لا يواتينا الحظ أليس كذلك؟ وهكذا، بدا لي الاختيار النهائي أكثر بساطة، موحيًا، أقل وطأة، وفي آن معًا، جزءًا من نسيج الرواية. فإذا كان ثمة انزياح عن الثيمة الرئيسة فلربما يكمن في الجزء المرجأ منه أو المتخفّي وأحسب أنَّ الأمر متروك لخيال القارئ. 

أما العتبة الثانية أو الاقتباس من كتاب مداريات حزينة فقد بدت لي العبارة مناسبة بشكل ما للإشارة إلى حكاية الرحلة الزمنية في الرواية. حكاية محمّلة بهواجس ثقيلة، ومحاولة اقتطاعها من تاريخها السوسيولوجي عبر مسار أسطوري. وهي إشارة بدت لي موحية بعد اقتطاعها من سياقها ومنحها مدلولًا جديدًا. في رأيي أنه عمل الروائي أيضًا: اقتطاع الأشياء ومنحها مدلولات مغايرة. ناهيك عن حقيقة أنَّ شيئًا من الأنثروبولوجيا يتسلل إلى كتاباتنا. تعلم أنَّ شتراوس صوّب سهام نقده لنظرة الأنثروبولوجيا الغربية التقليدية تجاه المجتمعات البدائية، لكن ذلك لم يكن هدفي بالطبع، إنما هي إشارة لتلافي المدلول التقليدي فحسب. 


ما السبب في العودة مرة أخرى في روايتك الجديدة “حفلة الصيد الأخيرة” إلى ما أسمّيه برواية “الحقبة” التي تتعلق بفترة معينة في تأريخ العراق وهي الحكم الملكي، لكن أطرتَ الرواية بأحداث سباقات الخيل ورحلات البحث وقد سبق أن لجأت إلى رواية الحقبة في روايتك “الحلو الهارب...” التي تتعلق بحقبة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003؟ 


لم أفكر حين كتبت رواية “الحلو الهارب إلى مصيره” بأكثر من تناول لحظة راهنة آنذاك أملتها الضرورة القاهرة، ومن زاوية تقليدية معينة، في مواجهة احتدام عنيف للحاضر وتصدّع لما يمكن تسميته بالقشرة الخاوية. إنَّ ما حدث لاحقًا من تغيير عنيف كان في جوهره انهيارًا مستمرًا، فإذا كانت رواية “حفلة الصيد الأخيرة” قد استمدّت ثيمتها من حقبة تاريخية سابقة فلأني عنيت بفترة تألقت فيها سباقات الخيول “الريسز” وكانت جزءًا من اهتمام عالي المستوى وشغف شعبي سبق ألعاب كرة القدم وغيرها من الرياضات. ربما تبتكر الثيمات الثريّة أزمانها وحقبها. لا بدّ أنَّ ذلك يعود لحدوس الكاتب واختياره اللاواعي. هذه المحرّكات الخفيّة. لكن، لا شك أنَّ الانقطاعات “الحقبية” في الأدب العراقي نوقشت مرارًا بمسبباتها الفكرية والسياسية. في حفلة الصيد تبدّت بعض الهواجس السياسية لذلك الوقت، كنت أتصور أنها إحاطات هامشية لتحديد إطار الحقبة، لكن يبدو أنَّ مفعولها كان عميقًا. أيعود سبب ذلك للتذكير بالمأزق السياسي المستمر إلى وقتنا الحاضر؟ 

استعمال اللهجة العامية في الحوارات (اليهود، البدو، البغادة، الجنوب) وشيء من اللغة المحكية في السرد، هل هو نوع من البحث عن الهوية؟ ومتى تظل هذه الإشكالية قائمة في الرواية العراقية المعاصرة منذ تأصيلها على يد غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهما؟ 

ربما الجواب البديهي يتمثّل بتمييز الشخوص في الرواية من خلال بيئاتهم وخلفياتهم الثقافية والشفاهية، وأيضًا استعادة هوية محلية مهمّشة أو عدّة هويات معًا. لكن ذلك لم يكن يلزمني دائمًا، فقد تكون النبرة وحدها كافية لتكثيف رسم الشخصية. كما حصل في روايتي “الأميرة في رحلة طائر العقل”- مع خصوصية هذا العمل- دون استخدام اللهجة المحكية، إنما بلغة مبسّطة. 


إشكالية المكتوب والمحكي قائمة في آداب العالم وبدرجات متفاوتة. هل يجب تنقية السرد من الهامش المحكي وماذا نتج أو ينتج عن ذلك في كثير من التجارب أكثر من لغة جمالية بمعيارية زائفة؟ نواجه إشكالية حقيقية بين أدب مصفّى وآخر هجين. المحكي هو بطبيعته اليومية ممسرح بما يتضمّنه ذلك من شحنة كوميدية أو درامية أو فاضحة إلخ.. برأيي أنَّ الهجين أقل بؤسًا من رماد أفران الغاز اللغوية. وببساطة، أوجد الروّاد سبيلًا وإشكالية في الوقت نفسه. لاحظت أنَّ القراء العرب فهموا حوارات رواية “ الحلو..” بنسبة عالية، هنا يطرح سؤال عن طبيعة المحكي والعمل على رفعه إلى الذوق العام. وهذه إشكالية أخرى تعتمد على قدرة الكاتب وأدواته في عدم الانزلاق إلى المصطنع والسطحي. في محاولات أخرى أتى الحل في تضمين السرد ما يتعسّر على الحوار تقديمه، أشار الروائي غارسيا ماركيز لذلك في كتابته مئة عام من العزلة. طريقة تلاف جيدة لكنها قد تفقد العمل ديناميته واللمحات الذكية. 



هل استعمال الضمير (هم) الذي يمثل اللاوعي الجمعي (حسب نظرية يونغ) أو الذاكرة الجمعية أمر فرضته طبيعة السرد وتقلباته؟ ولماذا بدت الذاكرة الجمعية مستبدة تتحكم بالروي وتعلق على الأحداث وتصاحب الشخصيات في حركتها وأفعالها؟


واجهت هذا السؤال عند شروعي بالعمل على هذه الرواية. فالضمير الأول المباشر وخصوصًا “نحن” كان الأسهل، إلا أنه حمل شحنة حكم ومشاركة تجنّبتها. لم أرغب بالحكم على الأشياء أو النظر إليها من الداخل. شعرت أنَّ الضمير الغائب لذاكرة جمعية هو الملائم. لا أعلم إن كنت محقّا، فقد خالفت طبيعة الكتابة الروائية. عزائي أنَّ تقنيات عدة تتسلل إلى نسيج السرد دون علم الكاتب أحيانًا. يا للنسّاجات الخفيّات المثابرات! في النهاية حملت هذه الذاكرة منطلقاتها بما فيها أحكامها وسطحيتها وأوهامها والبئرية العميقة للاوعي، وهذه مفارقة. لكن ما تدعوه التحكّم ربما أتى من عين الكاميرا اللصيقة، فهناك منظور يطرح عبر رؤية غير شخصية. إنَّ المظنون الذي يتكاثف من خلال الرؤية الجمعية يحتل حيّزًا كبيرًا ويتجسّد في مجموعة الاحتمالات المتكرّرة. يصبح فهمًا أنطولوجيًا لكل صغيرة وكبيرة. ربما هي لا تعدو لعبة أسلوبية لتمرير تلك الأوهام. 


-ما الستراتيجيات التي وظفتها في منح الصوت للحيوان البهيم (الخيل)؟ وهل الخيول هي التي سيّرت الشخصيات أو بالعكس وخصوصًا أنك استعملت سارداً كلي العلم؟


إذا كنت تقصد مركزية العمل فهذه رواية محورها الخيل بالفعل. وقد تناثرت حكايات عن الخيل في سياق السرد، الراوي غالبًا هو البدوي وظلاله. أحيانًا تستوحي الرواية صيغة كتاب غير محدّد، من خلال رؤية جمعية. وكما نوّهت لا شيء يفلت من هذه الرؤية الظنّية. أتحدّث عن ولع ملوكي وشعبي له تاريخه العميق وارتباطه بالخيل والفروسية في الجزيرة العربية. أرجو أنَّ أحادية الرؤية الظنّية هذه قد جمعت خيوط العمل وأتاحت الكشف عن جوانب اجتماعية وشخصية لها امتداداتها الزمنية. الولع الجهنمي بالخيل، هو ذاته يشمل الشغاف الأخرى ونقائضها. الحب والبغض، السلطة والميول الإيديولوجية. الحياة والموت. 


يقول المثل الإنكليزي “لو كانت الرغبات خيولاً لركبها المتسولون” ويبدو أنَّ الخيول لم تحقق رغبات الشخصيات الرئيسة، فبحث الأمير عبد الإله عن الفرس الدهماء باء بالفشل، وفشلت مهمة الرسول أحمد الشيخ بسبب مقتله على يد اللص ذياب خميس، كما يبدو أنَّ هناك الكثير من ثنائيات الحب غير المتحقق (سمحة- أحمد، دشر- الملكة عالية، مهجة- الرهيمي...إلخ) فما رأيك؟ 

هذا مثل مناسب! نعم. هناك سبب بسيط لإخفاق الوعد يتمثل في إجهاض رحلة أحمد الشيخ منذ البداية وتعويضها برحلة وهمية تختلقها ذاكرة الآخرين. يبدو أنَّ إيحاءً قويا يمعن في ذلك. الإخفاق في تحقّق الوعود. كما أنَّ شجرة العلاقات العاطفية لم تكتمل فهي جزء من أوهام الذاكرة. غالبًا ما تبنى علاقات الشغف على أوهام فائضة. على سبيل المثال فإنَّ ما يميز علاقة مهجة بالفارس محمود الرهيمي تعلق أخيها الصبي نجم به، إلا أنَّ كل شيء يضيع وراء عمى النسيان. أعتقد أنَّ جانبًا مهمًا من طبيعة هذه الرواية يتجسّد في عدم التحقّق، ما يمنح الذاكرة الجمعية أو اللاوعي الجمعي مساحة اختلاق حيويّة تضيف وتحذف من التاريخ الشخصي والعام. مثل الوعي بحلم يقظة وتطويره، فينتهي إلى الضياع بدفعه بعيدًا. ولأنها رواية تثبّت الأشياء بما فيها الأحلام والكوابيس وليست حلم يقظة تحتل التناقضات المساحة: السلطة الرعوية والرغبات الشعبية، أطر التحفظ المجتمعي والانفلات الخفي المهدِّد. التذكر بعدّه نذيرًا. 


يسير السرد في الرواية ضمن مسارين زمنيين: فهناك المسار الواقعي والمسار الأسطوري فما الذي دعاك لمثل هذا التقسيم الذي يبدو خفياً تقريباً للقارئ وهل هناك ارتباط بين الزمنين ومَنْ له الغلبة على الآخر؟ 

كان علي التخلص من فكرة التوثيق لحقبة معينة أو الاستسلام لمعطى تاريخي. إنَّ إيجاد زمن أسطوري من خلال رحلة البدوي وطيف أحمد الشيخ وما يشتبك مع ذلك من حكايات، بحثًا عن فرس نادرة تفعم صورتها خيال سلطوي، ويمتد شعاعها بعيدًا، منح الرواية بعدًا آخر. هو في النهاية يرتبط بالزمن التاريخي المفترض نفسه. زمنان افتراضيان يلتقيان ويفترقان. في لحظة واتاني شعور أنَّ أحدهما يلوح أكثر خيالية من الآخر. فهل لأحدهما سلطة على الآخر..؟ لا أدري. أما بالنسبة لغموض المسارين فلا يمكن بالتأكيد توضيح كل شيء للقارئ. من الجيّد إمتاعه ودفعه للتفكير والتقصّي. 


تمضي الرواية على خلفية سياسية واجتماعية لكنك أوليتَ الناحية السياسية اهتماماً كبيراً مثل التظاهرات، وثبة كانون، حركة رشيد عالي الكيلاني، إعدام الشيوعيين وغيرها، ولم يظهر الجانب الاجتماعي إلا قليلاً وأقصد به تأثيرات سباق الخيول على المجتمع وبالأخص في جانبها السلبي إذ يحدثنا التأريخ أنَّ الكثير من الناس خسروا أموالهم بسبب الرهانات على الخيل مما أدى إلى نوع من التفكك الاجتماعي؟ 

اكتفيت ببعض الإشارات لما سمي آنذاك بالانهيارات المجتمعية نتيجة المقامرة في سباقات الريسز, التقاط حسرة الخسارة ونشوتها في آن معًا، بما يضيف شيئا لفكرة الشغف بالخيل كونها الثيمة الأساسية. إنه نوع من الإدمان فذكر نشوته لا يعني إغفال مخاطره. ولم يكن يعنيني تشريح تأثيراته الاجتماعية. أما الجانب السياسي فتبلور كما تفضلت باعتباره خلفية لحدث أبرز وتأكيدًا زمنيًا في مقابل الجانب الأسطوري. إننا نعاني من عبء التاريخ السياسي وأي إشارة في مجاله تشبه وخزة دبوس بخارطة الألم. 

أحسستُ أنَّ الرواية انتهت في الفصل ما قبل الأخير بالكلمات التالية: “تُخلّد أسماء الجاكية الأفذاذ وتُنسى الجياد، .... أو ربما يُنسى الجميع: الجياد والفرسان والملوك وراء سحابة غبار”. لكنك أضفتَ فصلاً أخيراً كررتَ فيه حدث اللقاء بين أحمد الشيخ وقاتله اللص ذياب خميس، فهل أردتَ أن تكون النهاية مدورة، وهل تعدّ الخيول الأبطال الخفيين في الرواية؟ 

على الرواية أن تنتهي في لحظة ما بعد أن تكمل نثر بذارها. قد يذهب بعض منثورها هباءً أو يورق بعضه. ولعلها انتهت فعلًا في تلك اللحظة أو لم تنته مطلقًا. أدع هذا لحكم القارئ. لكني بالتأكيد اخترت إعادة لحظة مصرع أحمد الشيخ للإيحاء بعدم تقدم الزمن إلا في المخيال الجمعي، أي بامتداد الزمن الأسطوري. وأنَّ النهاية، نهاية وعد لم يكمل تحققه، بقيت كما هي. 


هل القدر والصدفة قوتان مهيمنتان في الرواية؟ فقد وردت كلمة “قدر” في الكثير من الفقرات. وهل الشخصيات تعد متحكمة في مصير الآخرين؟ أم تمارس إرادتها الفردية كونها قوة تشكيل في حياتها؟ 


يمكن استقاء هذه المفردات من روايات الفروسية التي تمارس فيها كلمات مثل المصادفة والقدر والمصير رقصة أبدية دوّارة. مرّة من باب التراجيديا وأخرى عبر الكوميديا. لكن أعتقد أنَّ تكرار هذه اللازمة وما ماثلها جاء جزءًا من لعبة الاحتمالات التي تتخلل السرد. وهي تتفرّع من الرؤية الجمعية وتهويمات الذاكرة. كما لا يخفى أنَّ هذه المفردات التي تبدو قطعية ترتبط بالأعراف الاجتماعية في مواجهة عدم الفهم. ندب موروث ونزوع لخلط الشخصي بالكلي. هذه مفردات مقيمة ومؤثرة. ومن خلال العودة لمسألة المحكي والمكتوب تجمع هذه المفردات أصداء المتضادات وتعجنها. للحظة يختفي التنافر الفكري بين لغة الشارع والصالون إذا صح القول، وهذا ما يحصل مع ألفاظ أخرى.

وفي مقابل مفردات تبدو عرفية لا شك أنَّ ثمة شخصيات مؤثرة في كل عمل روائي تدفع به وتحركه. على سبيل المثال، يمكن النظر لشخصية الأمير عبد الاله باعتبارها محركًا أوليًا فهي على حقيقتها التاريخية تبقى شخصية روائية متخيّلة. وباعتباري خارج نطاق هيئة المحلفين لا يمكنني التأكيد على أي الشخصيات أكثر تأثيرًا. 

احتفيتَ بمضمار السباق كونه فردوساً لرواة القصص. ما هي الشخصيات الأكثر مهارة في تحويل الحقيقة إلى خيال؟ ما الذي يحفز إضفاء الطابع الأسطوري والرومانسي على الخيول وبعض البشر الذي يظهر طوال الرواية؟ 

لا أعلم كيف بالوسع إضفاء طابع أسطوري على أشياء معيّنة. إنه كامن هناك فحسب. نحن نتذكر الخيول في وجودها الأسطوري ذاته، مفروضًا بقوّة ما. يجب الحذر عند الإشارة لذلك. لكنه هذا التراكم الملحمي عبر التاريخ والرفقة والافتتان الذي يعمل عمله في مخيلة الكاتب. الجياد تمنح فرسانها الروعة الرومانسية. المصائر والمغامرات والنهايات. فكرة بدائية عن الحياة تكاد تنقرض أو تم استبدالها بالسيارات والدراجات النارية. فإذا كنت قد نجحت في إضفاء أخيلة رومانسية أو أسطورية على بعض الشخصيات أو بمجمل العمل فهذا شيء جيد، لأنَّ هذا هدف أقصى مفتقد في أغلب الأحيان. 

أين يلتقي عالما الخيول والسياسة؟ كيف يؤثر العِرق والجنس في الرواية؟ هل يقدم عالم الخيول صورة مصغرة كاملة ومعقدة؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، ما هي الحلقة المفقودة؟

هذا الرأي بأنهما يلتقيان نجم عن قوّة السلطة والمال، فهما لا يلتقيان إلا في هذا المضمار. أما إذا رغبنا بإضفاء رمزية قصدية على هذا العالم فهذا وارد تماما، وأعترف بأنه أمر فج نوعًا ما، لذلك تجنبته قدر المستطاع من خلال إضفاء الأسطورة مع ما تحمله من بواعث رمزية. وبعد كل شيء أتساءل هل يمكن تجنّب نسيجه المتشابك؟ قد يكون ممكنًا الحديث عن صورة مصغّرة، مجاز معقد فعلا لعالم شديد الهياج، والمشكلة أنَّ الإمساك به صعب أيضا. أما توظيف الجنس فهو أقل تجسّدًا في هذه الرواية كما أعتقد. 

نشأتَ في بيئة متعددة الثقافات مما أتاح لك تجارب وظفتها في كتاباتك ما مدى تأثير تلك البيئة وهل تعتمد على تجاربك الشخصية أو ما تقرأه من كتب التأريخ وغيرها ؟


أعتقد أنني أفكر وبشكل غريب بمجموعة بيئات متباينة وليست واحدة. في كتابة الرواية هناك انشداد يلزمني التخفيف منه قدر المستطاع، فيأتي مثل طوق نجاة الجمع بين تجاربي الشخصية والمصادر الخارجية. أتذكر دليل التلفونات القديم كمصدر.. ربما ذكر ذلك كاتب قصص بوليسية! لكن لكل كاتب مصادره. أعتقد أنَّ البحث عن المصادر المستخدمة في الرواية مضيعة للوقت، فالكاتب لا بدّ أن يمتلك براعة في التوليف بين المتناقضات. هذه أداة فعّالة تتخطى أهمية توفر المصادر. لكن دعني أعد إلى فكرة الانشداد الذي يرخيه ويمنحه الليونة استلهام ثراء الطفولة والصبا، بل مجمل غرائب الحياة وإعادة تخيّلها مجدّدًا. إنه أمر داخلي لا يمكن تفسيره. من دون ذلك سيكون توترًا أسلوبيا قاسيًا يؤثر بشكل سلبي في العمل. 


أصدرت مجموعة قصص قصيرة بعنوان “أيام فاقد الحب” هل حفزتك كتابة القصة القصيرة على توظيفها في كتابة هذه الرواية؟ وهل هو احتفاء برائد من رواد القصة القصيرة في العراق حين أوردتَ في أحد فصول الرواية شخصية أنور شاؤول كونه أول كاتب قصة عراقي عن الخيول؟ 

كان لدي مخطط أو ثيمة هذه الرواية منذ سنوات. لم يحن أوانها آنذاك لكن عوالمها الضاغطة دفعتني لإفراغها أولا في قالب قصصي. أحيانا تأتي القصص لتخفف عني الهواجس المضنية. السؤال المتوجّس الذي يراودني دائمًا: هل يمكنني كتابة هذه الرواية؟ لعلني بمجرد طرح هذا السؤال البريء في مظهره أكون تخطيت مخاوفي. أترك وحدي في الغابة. 

في حفلة الصيد الأخيرة أكثر من دسيسة لعل أوضحها للعيان ذكر قصة أنور شاؤول. نعم هو احتفاء من جانب ونسج خيوط حقبة سابقة بمغازل خارجية إضافة إلى دعم لفكرة أن تتخطى الرواية نفسها. كما أنَّ المدسوسات أكانت واضحة أم خبيئة أمر جميل ومبهج وخبيث نوعا ما في عمل متخيّل. 

شهدتْ كتابتك في العامين الماضيين دفقاً إبداعياً كبيراً إذ أصدرتَ مجموعة قصصية وروايتين إضافة إلى إعادة طبع كتبك السابقة، ماذا سيكون مشروعك القادم؟ 

شكرا على هذا الثناء. يصيبنا هذا السهم اللاذع أحيانا. على وجه الخصوص عندما تتوفّر فرصة طيّبة بعيدًا عن “عواصف الحياة” كما قال ميشيما، وظروف نشر رصينة. لكني لم أفعل شيئا سوى إعادة بعض المسوّدات للحياة، ومنها الرواية التي سأباشر تأليفها. أرجو أن تكون أصغر حجمًا من مسوّدتها فهي عن الحبّ.