استعراض في غزة

آراء 2023/12/07
...

 ساطع راجي


لم تحقق نظرية «استخدام الإعلام لفضح الجريمة وردع المجرم» نتائج مهمة في الحرب الاسرائيليّة ضد غزة التي تُنهي شهرها الثاني هذه الأيّام رغم اتّساع التعاطف الانساني مع الشعب الفلسطيني عالميا، وفكرة أن «تسجيل الجريمة يسهم في تحقيق العدالة حتى لو استغرقت وقتا طويلا» غير واقعية إذ لم يحدث أن تمت محاكمة طرف قوي على المستوى الدولي، بل إن كثافة التغطية الإعلاميّة للأعمال العسكريّة الاسرائيليّة ربما تقود إلى نتائج مضادة.

إنَّ تفسير المستوى العالي من العنف الاسرائيلي المكشوف بمجرد الرغبة في الانتقام أو طمأنة المستوطنين هو تفسير منقوص، إذ من الضروري الأخذ بأن التقنيات الاعلاميّة المتاحة تسمح بسقف عالٍ من استعراض القوة بهدف الردع وإثارة الرعب، وهو ما عمل عليه بجهد كبير تنظيم داعش الارهابي حين كان يصور وينشر جرائمه ويتعمد إخراجها بأداء متقن.

فإذا كان عدد كبير من الصحفيين والنشطاء المدنيين والمنظمات الاغاثية يحرص على كشف وتسجيل الجرائم التي تحدث في غزة ونشرها فإنَّ إسرائيل تبدو بدورها حريصة على ارتكاب الجرائم الشنيعة علنا ولا تحاول إخفاءها أو إنكارها ومعظم وسائل الاعلام الغربيّة ومنها المقربة لإسرائيل تنشر هذه الجرائم بلا تردد، وربما تتعمّد إسرائيل ارتكاب هذه الجرائم فقط لضخ أكبر قدر ممكن من تعبيرات القوة والقسوة واللامبالاة بالمعايير الانسانيّة والقانونيّة وهي رسائل موجهة للمحيطين العربي والاسلامي، وللعقل الشعبي تحديدا لإعلامه بقدرة إسرائيل على ارتكاب الجرائم نفسها ضد بقية الشعوب ولن يردعها شيءٌ بهدف دفع هذه الشعوب لتجنب دعم أي مواجهة مسلحة ضد إسرائيل.

في عدة حالات، تحول الإعلام إلى فخ ليكون أداة تهديد وابتزاز وبث الرعب حتى لو لم يرغب القائمون عليه والمشتغلون فيه أداء هذه الوظيفة، فإذا كانت المؤسسات الاعلامية التعبوية في السابق هي من تتعمد نشر ممارسات القوة وحالات الانتصار للجهة المالكة فإنّنا اليوم نشهد عملية استغلال مضاد للاعلام مهما كانت استقلاليته وموضوعيته في إيصال رسائل عدوانيَّة، فإذا كانت وسائل الاعلام الاسرائيلية عاجزة عن دخول البيوت العربية والاسلامية للتعبير عن «قوة وقسوة ولامبالاة إسرائيل» فها هي كل وسائل الإعلام تقوم بالمهمة مضطرة.

ولأنَّ المخاطرة ترافق كل عمل استعراضي، تواجه إسرائيل وأي جهة أخرى تشببها رهانا على إمكانية أن يؤدي بث الوحشيّة المفرطة في قسوتها وعلنيتها، إلى ارتفاع مستوى الكراهية والرغبة في الرد على العنف بالمثل وهو ما حدث في حالات كثيرة، إلا أن ما يهمش هذا الاحتمال هو اليقين الاسرائيلي، وفقا لعقيدة قيام الكيان، بوجود الكراهية قبل ممارسة العنف وعدم الاهتمام بوجهة النظر الشعبية العربية والاسلامية تجاه إسرائيل، ومن تراكم القسوة الاسرائيلية يمكن الاستنتاج بأن هذا الكيان يعتبر استمرار الكراهية ضده ضروريا للتماسك الداخلي وللحصول على الدعم الغربي مع ترسخ فكرة عدم وجود تهديد حقيقي من هذه الكراهية؛ ولذلك تدام هذه الكراهية عبر استعراضات العنف التي يراد منها تحقيق نتائج في الداخل والخارج.