النفايات.. ثروات اقتصاديَّة مهدورة

ريبورتاج 2023/12/07
...


 فجر محمد
لم تكن تلك الشوارع الممتلئة بأكوام النفايات والروائح الكريهة المنبعثة منها اليوم، سوى مساحات نظيفة تسر الناظرين في الماضي، فضلا عن الحدائق والجزرات الوسطيَّة الخضراء والمكسوة بالورود والنباتات الجميلة، وهي تشكل جزءاً كبيراً من ذاكرة الحاجة أم حسين فهي تعيدها إلى طفولة أولادها وتلك المراحل العمريَّة الجميلة التي ولت من دون رجعة، تشكو أم حسين من اقتحام النفايات لتلك الأماكن وتلعنها كل ما خرجت من منزلها، وسارت بجانب تلك الأكوام المقززة والمشوهة لمنظر المدن وفق تعبيرها، تلك المساحات التي كانت تتلحف بالغطاء الأخضر وتنعم بالنظافة ليلا ونهارا في اغلب الاوقات، تعاني اليوم من الاهمال الواضح.
وتقول أم حسين وهي تشيح بناظريها بعيداً وكأنّها تستحضر صورة ما: "كنت أحب هذا الشارع الذي سكنت فيه منذ زواجي، وولد فيه أبنائي الأربعة وترعرعوا لكنّه اليوم يبعث على الأسى والحزن وهو مليء بالنفايات المتراكمة".

تشير التقارير الإعلاميَّة إلى أن الشوارع تكاد تعج اليوم خصوصاً تلك التي تقع داخل المناطق السكنيّة بمختلف أنواع النفايات وتحديداً بقايا الطعام، التي تجرها القطط والكلاب وتنثرها في الشارع بمشهد فوضوي ومؤلم في الوقت الذي يحلم عدد لا يستهان به من أفراد المجتمع بلقمة تطعمهم وأطفالهم. 

ومن الجدير بالذكر وجود مناطق سكنيّة تعاني من مكبَّات النفايات، التي غالباً ما تكون على مقربة من البيوت فتنبعث منها الروائح وتتجمّع الحشرات والحيوانات، علماً أنَّ الكثير من هؤلاء القاطنين بالقرب من تلك المطامر قدموا شكاوى متعددة للجهات ذات العلاقة لكن من دون جدوى.

وبحسب مدير العلاقات والإعلام في أمانة بغداد محمد الربيعي، فإنّ العاصمة بغداد تطرح كميات كبيرة من النفايات بشكل يومي، ومؤخراً تقدم عدد من المستثمرين يصل عددهم إلى 40 مستثمراً بأولياتهم وبياناتهم إلى هيئة الاستثمار الوطني، من أجل الاستفادة من تلك الكميات في مشاريع واعدة ومفيدة للبلاد.


تجارب ناجحة

تشير التقارير إلى وجود العديد من الدول التي قللت من طرح نفاياتها، ومنها كوريا الجنوبيَّة التي حظرت طرح النفايات الغذائيَّة على الأرض عام 2005، كما عملت على إعادة تدوير جميع أنواع المواد وتحويل الغذائيّة التي يتــمُّ التخلّي عنها إلى أســمدة، أو طعام للحيوانات.

أما في بعض الدول الأوروبيَّة ومنها فنلندا فيتمُّ فرض ضريبة أو رسوم بيئيَّة، على أنشطة معالجة النفايات تتراوح بين 9 إلى 95 دولاراً للطن الواحد، إذ وصلت الايرادات من هذا القطاع في عام 2009 إلى 36 مليون دولار اميركي بحسب البيانات الصادرة.

وفي هولندا يتم تدوير ما يصل إلى 82 بالمئة من النفايات. 

ولهذا انخفضت الكمية التي يتم ارسالها إلى مطامر النفايات من 17 مليون طن في عام 1985 إلى 4 ملايين في العام 2004، كما شهدت الكمية المرسلة إلى المحارق انخفاضاً ملحوظاً من 20 مليون طن إلى 10 تقريبا. 

ومن الإجراءات الأخرى التي اتبعتها الحكومة الهولنديّة تحميل الشركات المنتجة مسؤولية استعادة فضلات التعليب والتخلّص من المنتجات المستعملة، فباتت هذه الكلفة ضمن سعر المنتجات الجديدة، وواجب على تلك الشركات ان لاتهمل نفاياتها وتستفيد منها بأقصى حد ممكن. 

أما في اليابان فيعاقب الشخص المخالف، الذي لا يقوم بعزل النفايات وفقاً لنظام معين متبع هناك إذ تفرض عليه غرامة مالية، فضلاً عن إعادة سلّة نفاياته وإجباره على ترتيبها بشكل صحيح ليتمّ فصل بعضها عن البعض الآخر، والاستفادة منها في مشاريع التدوير.


تلوث كبير

يحذر الخبراء من مشكلة تراكم النفايات في مجاري الأنهار، وعلى وجه الخصوص إلقاء فضلات الطعام في تلك المجاري، ويرى الباحث والناشط البيئي أحمد صالح نعمة أن تعرض الأنهار إلى التلوث سيضرُّ حتماً بالتنوع البيولوجي، خصوصاً مع وجود البكتريا الحميدة، وبيوض الأسماك والكائنات الحيّة الأخرى، التي ستتاثر قطعاً بتلك النفايات.

في حين كشفت وزارة البيئة عن أن النفايات مشكلة حقيقية تعاني منها البلاد، وعلى وجه الخصوص العاصمة بغداد بسبب الكميات الكبيرة التي تطرح والطرق والاساليب التقليدية المتبعة في ادارتها. 

وان العاصمة تطرح كميات كبيرة جداً، ولهذا هناك حاجة ماسة 

إلى مشروع حقيقي للاستفادة من تلك النفايات وتدويرها بشكل صحيح.

تشير الأبحاث والدراسات إلى أن النسبة الأكبر من النفايات المنزليَّة، هي فضلات وبقايا طعام ومحاولة تكديسها في مكب النفايات يعد خسارة اقتصاديّة، لهذا يقترح الخبراء أن يتم تصنيفها وفرزها وفق معايير معينة، منها فرز المواد العضويّة إلى مواد صالحة (غير متخمّرة) من الممكن ان يستهلكها الحيوان، وتستفيد منها مزارع الدواجن والماشية أما النفايات العضوية فيتم تحويلها إلى أسمدة طبيعيّة للتربة.

ومن الجدير بالذكر أن العديد من المطاعم في مختلف دول العالم تلقي بالكميات المتبقية من طلبات الزبائن إلى سلة النفايات، من دون ان 

تجد آليَّة معينة لتحتفظ بتلك الأطعمة والمأكولات التي يتم التخلّص منها، في حين تقوم الدول المتقدمة بمتابعة المطاعم مع وجود فرق تطوعيّة من الشباب الذين يهتمون بالبيئة وتقليل التلوث الحاصل فيها، كما أنّهم يأخذون على عاتقهم إعادة استخدام ما يمكن أكله من الطعام وتوزيعه بين الفقراء.


ممارسات خاطئة

تخطو العديد من دول العالم خطوات حقيقيّة وفعليّة في إدارة ملف النفايات، فمنها من يعيد صناعة وانتاج المخلّفات وتحويلها إلى منتجات جديدة، بكلف وأسعار أقل من الأصليّة ولكنها تفي بالغرض، كما أنّها تسعى من خلال تلك المشاريع إلى الحفاظ على البيئة فعوضاً عن حرق تلك النفايات وتسببها بإطلاق غازات سامة ومؤذية للإنسان، تعمل الكثير من الدول على الاستفادة منها بشكل كبير ولا تقتصر تلك المشاريع على مخلفات الطعام وما يطرحه الأفراد في سلة نفاياتهم بل وصل الأمر إلى الالكترونيات مثل الهواتف المحمولة، وأجهزة الشحن فضلاً عن الكهربائيات إذ تستفيد منها الشركات والمصانع التي تعمل في قطاع الصناعات التكنولوجية، وتعيد تدويرها من جديد.

وفقاً لبيانات منظمة الامم المتحدة فإنّ العراق ينتج ما يصل إلى 30 ألف طن من النفايات الصلبة يوميّاً، لكنّه يفتقر إلى البنية التحتيّة التي تؤهله للتعامل مع هذا الكم الهائل من النفايات والتخلّص منها بطريقة ملائمة، بشكل يضمن عدم وجود آثار سلبيّة على البيئة وصحة السكان لذلك يتم التخلص من غالبية تلك النفايات في مدافن قمامة غير منظمة. 

وترى الأمم المتحدة ان مثل هذه الممارسات تكلف العراق في نهاية المطاف ثمناً باهظاً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتزاماته الدوليّة، بالحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فضلاً عن تلوث التربة والمياه الذي تتسبب به النفايات بشكل مباشر.

ويرى خبراء الاقتصاد في مشاريع التدوير، بأنّها بادرة أمل للعاطلين عن العمل فعندما يتم تشغيل المصانع والمعامل، سيكون هناك حاجة ماسّة لأكبر عدد ممكن من الايدي العاملة، فضلاً عن إعادة تدوير العديد من المخلفات، سيكون بمثابة مورد اقتصادي آخر تستفيد منه البلاد، كما يمكن ان تكون تلك المشاريع عوامل مساعدة لتحسين الطاقة الكهربائية وتقليل التلوث والتشجيع على التوجه نحو الطاقة النظيفة، أسوة بالعديد من دول

العالم.