طالب كريم
الروائي الذي نحت عذابات عمال مناجم الفحم الحجري الروس، وآلام «الشغيلة» المعدمة في روايته الخالدة «الأم» للتذكير ليس أكثر، هو مكسيم غوركي، الذي يعد مؤسس مذهب الواقعية الاشتراكية أو الأدب الاشتراكي الذي رسخ مفهوم بطولة «الجموع المضطهدة» للذين يتجاوزون اخفاقاتهم بالأمل في حياة أكثر عدالة وتسامحا، طالما حركة التاريخ واملاءات الضرورة تقودها المجتمعات المقهورة. أما البطولات الفردية، الخارقة، كما روج لهــا الالماني «نيتشة» في مقالاته الأخيرة وهو يحتضر على ذراع شقيقته، في حينها كان يعاني من الذهان، وهو التعبير المهذب للانهيار العقلي الذي أصيب به إثر تفاقم تأثير جرعات الزرنيخ، التي تناولها للتخلص من مضاعفات مرض الزهري الذي فتك به.
مقالاته تلك، انتجت فيما بعد شخصيات وكائنات غرائبية بقدراتها غير الطبيعية التي تداعب خيال الصبية قبل دخولهم «معترك» الحياة بأحذية عمل ثقيلة وعلبة تبغ رخيصة وحفنة ذكريات عن طفولة بمناخ غائم.. المخلوقات التي تتقافز من مخيلة «نيتشة» لينتهي بها الأمر في مصيدة رأس المال، اليقظ كقط متمرس لصنع جرعاته المخدرة لتسكين آلام تحلم «بالمخلص» الذي سيأتي يوما ما لينقذها من الاوغاد. هذه المرة لن يكون مسيحا أو أي شخص آخر تصنعه مخيلة الاقنان والارقاء، سيكون مخلصا خارقا عبر شخصيات مارفل المثيرة وأبطال مجلات الكومكس الشهيرة، بداية من «بات مان» إلى الرجل المطاط التي صدعت رؤوسنا بأفعالها الخارقة! في المجلات الرخيصة التي أجدها مكدسة بإهمال على رف مكتبة شعبية في زقاق نصف معتم يجاور سينما البيضاء في بغداد الجديدة، المدينة التي استيقظت أولا في خرائط شركة بغدادية برأسمال يهودي عام 1948، تلك المكتبة التي تبيع الكتب المستعملة بثمن زهيد، كنا كـتلاميذ يفقدون كتبهم لأسباب عديدة، نلجأ اليها لشراء نسختنا من كتاب «الوطنية» بـ150فلسا عام 1967، يمكننا تصفح تلك المجلات الملونة مقابل خمسة مسكوكات نحاسية قيمة الواحدة منها فلسا واحداً، ليس بدأ بالفتى الخارق، الذي وجد طريقه إلى كوكب الأرض الذي ينتظر المخلص لكي ينقذها من اوغاد «جوثام» أو «سدوم»، بعد أن استنفد كوكب «اوميغا» طاقة الحياة وتحول إلى قزم «نيوتروني»، وليس انتهاء بالرجل البرق، الذي يبدو نسخة محسنة لـ «هرمس» أو الملاك، حامل الرسائل بجناحيه الهائلين، أو يملك قدرات هدهد الملك التلمودي سليمان الذي شيد هيكلا لتمجيد تابوت عهد العرق النقي. فيما بعد، أحاله العاهل البابلي نبوخذ نصر الثاني إلى «أأثر بعد عين» النساء البابليات المتبضعات في سوق البضائع القديمة في حارة عشتار عثرن على بقايا ذلك الناووس، وهو الأمر الذي عد دليلا «جرميا دامغا»، ليبرر الانتقام الشرير غير المسبوق الذي انصب على المدينة المتسامحة التي اوتهم، حين ارشدوا «كورش» إلى اقصر طريق لسحق الإمبراطورية.. «كورش» الذي بات ليلته تلك مخلصا بعد أن مسحوه بالزيت المقدس، وصار نبيا تلموديا في توراتهم البابلية برفقة الحسناء اليهودية استير!
مكسيم غوركي، الذي وجد ضالته في ثورة «أكتوبر» التي غيرت وجهة التاريخ وليس وجهه! الثورة التي حسمت أمرها حينما انضم رجالها المؤثرون إلى الجبهة البلشفية وطرد المناشفة الذين اخفقوا في استمالة «الشغيلة» والاقنان والمزارعين البسطاء اليهم. وجد أمله الشيوعي في الثورة التي بشرت بخلاص الإنسان وعتقه من مخاوفه وأوهامه، ولكنه، شيئا فشيئاً، فقد حماسته بالخطابات النارية التي يلقيها الرفيق «ليون تروتسكي» وهو يحث فيها الاقنان والجنود المرهقون على تدمير بقايا ثقافة الأرستقراطية والبرجوازية الروسية، بينما دعابات الرفيق «ستالين» وهو ينفخ دخان غليونه في هواء الكرملين الراكد، اثارت فيه الشعور العميق بالإحباط والخوف مما سيحدث فيما بعد، فها هي الثورة تلتهم أولادها الواحد بعد الآخر! بعد أن انجزت تدمير الامبراطورية التي شيدها ايفان الرهيب وسلالته، كما اجهزت على خامس اقتصاد عالمي في حينه وثالث أسطول بحري. سيكون من الجميل التذكير بالفيلم التسجيلي الرائع الطراد «بوتمكين»! ورتل الجنود حملة البنادق، وهم يطلقون نيران بنادقهم أو بالمرأة التي تحاول اللحاق بعربة صغيرتها التي تتدحرج على سلالم «الاوديسا» في ميناء «فيستاسبول» للمخرج «سيرجي ايزنشتاين»، بمساندة القيصر الالماني الذي يكن ضغينة وكراهية لا مبرر لها للقيصر نيكولاي الثاني وزوجته التي تتحدر من عرق جرماني، وتمويل غير مسترد من ثري الماني يهودي لتمكين البلاشفة من اجتياح بطرسبورغ وتصفية نيكولاي الثاني، للتذكير أن كارل ماركس كان هو الآخر يهوديا قبل أن يتملص من التلمود البابلي ويعلن البراءة من شعب «يهوه» المختار! الأمر الذي أجده الآن غريبا أن أغلب قادة الحركات اليسارية «الكوزمبلوتية» التي تناهض الدين وتناصب القومية البغض والعداء كانوا يهودا! الروائي الواقعي الاشتراكي «غوركي» كتب روايته الاصدقاء الثلاثة التي تنبأت بانتحاره، تحت تأثير الشعور الاخفاق حاول الانتحار أكثر من مرة، كرفيقه الشاعر المتمرد «مايكوفسكي» والشاعر الريفي الرقيق «يسنين»، كلاهما انتحر بطريقته الخاصة. تبدو لعبة الروليت الروسية رائجة في ذلك الوقت التراجيدي، ترجم لهما الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر، ولكن غوركي انتهى به الأمر صريعا لأسباب لازالت حتى يومنا الحاضر مجهولة. يمكننا بناء أكثر من قصة حول موت الروائي سواء كانت بالسم أو بإطلاق رصاصة واحدة من مسدسه «ميكا روف» عيار 9 ملم، النوع والعيار مستل من توصيفات الجيش العراقي للأسلحة والذخائر السوفييتية من حقبة السبعينيات، تلك الرصاصة الواحدة خرقت صدغه الأيمن، وسفحت دماغه اللزج الاصفر الذي تناثر على كتفه الايسر. في الاصدقاء الثلاثة نجد أن أحدى شخصياتها القلقة، تتخلص من حياتها بطريقة مفجعة، حينما يقذف جسمه بعنف ناطحا برأسه الجدار، تلك الصدمة الهائلة، هشمت جمجمته، فخر صريعاً جثة هامدة، وهو الأمر نفسه الذي قام به الروائي مكسيم غوركي. فيما بعد، ولكن هذه المرة برصاصة واحدة خرقت دماغه، صعب المراس، أو بالسم أو بأي طريقة أخرى ستؤدي إلى النهاية نفسها طالما الموت ينتظر سبباً تافهاً
لكي يحدث.