الجمال في النَّسق الأفلاطوني

ثقافة 2023/12/07
...

 مؤيد أعاجيبي


يعتبر أفلاطون شخصيّة بارزة في تاريخ الجماليات، حيث تظهر رؤيته للجمال من خلال أعماله المسرحيَّة باعتبارها عنصراً أساسياً في الإيحاءات الفنية. تترك تأثيرات كتاباته العميقة أثراً كبيراً على معظم مدارس الفكر الجمالي. يُعرف نهج أفلاطون في الجمال باسم “جماليّة تصاعديّة”، حيث يتقدم بتدرج من مستوى إلى آخر بهدف الوصول إلى مفهوم سامٍ للجمال. وهذا الجمال أصلياً في جذور كل شيء، ويضفي على الأشياء سحرها، ويرتبط هذا الجمال بالخير.

يشكل النّسق الأفلاطوني تكاملاً مدهشاً لمجموعة من المفاهيم التي سبقته، حيث يمكن رؤية تأثير أستاذه سقراط والبيئة الفلسفية التي عاش فيها كمصدرين رئيسيين للتوجيه الفكري لأفلاطون. وبالتالي، اندفع أفلاطون نحو هذه الاتجاهات العقلية، حيث خصص عالماً خاصاً للمعقولات، ودافع عن استخدام الاستدلال العقلي، كما أنه فرض متطلبات صارمة للانضمام إلى أكاديميته بمقولة: “من لم يكن رياضياً فلا يدخل علينا”. على الجانب الآخر، قام أفلاطون بمقاومة الغموض في فنون النحت والرسم، وشدد على ضرورة وضوح الخطاب الفني. كما دعا إلى أهمية معرفة الفنان للمثال وتوجيهه للناس نحو الخير. ومع ذلك، آمن أفلاطون بتفوق الإلهام والحب على المعرفة العقليّة، لأنه رأى في هذه القوى غير العقلية وسيلة للاتصال بالعالم المثالي الذي يتسم بالحقيقة.

يتقدم الجمال لدى أفلاطون عبر مراحل ثلاث: الجمال الشكلي، وهو الجمال المتعلق بالأشكال، والجمال الأخلاقي والعقلي، الذي يتجلى في جمال الأفكار والمعرفة يسمى جمال المعرفة، وأخيراً الجمال المطلق، وهو الجمال الأبدي أو الجمال المثالي. تأتي أفكار أفلاطون وسقراط كتتابع للتيار العقلي المثالي الذي بدأه فيثاغورس. تستند إلى مفهوم المثالية في التميز بين عالم الكون وعالم الفساد، وهو توجه يمتد إلى الجمال ويظهر في تطوره نحو المثالي في عقيدة أفلاطون، يُعبر العالم الأول عن الواقع المادي المكون من الأشكال المتنوعة والنقص، بينما يمثل العالم المثل الواقع الحقيقي والمثالي.

 ويرى أفلاطون أن هذا العالم المثل لا يكون بالضرورة في السماء، بل يُظهر بوضوح في عالم العقل بشكله الأزلي. يُعتبر ما يظهر في الطبيعة محاكاة ورمزاً يشير إلى الأصل، دافعًا نحو الكمال الأزلي. الأشياء تظهر جميلة أو قبيحة اعتماداً على استعدادها، حيث يكون الجمال صورة للأشياء الحسية. يتقاطع الجمال والقبح في عالم الكون والفساد، حيث تكون الموجودات جميلة من حيث الصورة وغير جميلة من حيث المادة. الجمال يتدرج من الحسي إلى العقلي أو الروحي، ورغم ذلك، فإن عدم قدرتها على التخلص من المادة تماماً يحول دون تحقيق جمالاً مطلقاً في هذا العالم. وبالرغم من غياب الجمال المطلق، إلا أن الجمال لا يزال موجوداً بشكل نسبي ويتفاوت من الجمال الحسي إلى الجمال العقلي أو الروحي.

من خلال تحليل عميق لحوار فايدروس، يظهر الرابط القوي بين الفلسفة والفن من جهة، وبين الجمال والحقيقة من جهة أخرى، في تبادل فعّال مع أفلاطون. تكشف هذه النظرة غير العقلية عن السياق الذي يحدد نظرية أفلاطون في المعرفة والفن، حيث يلزم الفنان أن يستكشف الجمال، ويهرب بمثل ما يحدث في مثلث الكهف، ليصبح فيلسوفاً يخوض حوارات حول الجمال. في كتاب “فيدون”، ارتبط الجمال بديالكتيك الحب، كون الحب عند أفلاطون  يعتبر دافعاً أساسياً للفيلسوف نحو السعي لفهم الحقيقة، وفي الوقت نفسه، يشكل هذا الحب دافعاً للفنان أيضاً يحثه على استكشاف الجمال. بينما في “المأدبة”، تم استعادة النقاش حول الجمال والحب، مؤكداً أن المظهر السامي للجمال يندمج مع جمال الروح، وأن الجمال يتلاقى مع الخير. في “الجمهورية”، تظهر الجماليّة التصاعديّة من خلال تحديد الجمال بمفهومين كيفيين وكميين، حيث يكون الجمال مرتبطاً بفهم الحق والخير. يظهر الجمال في نظرية أفلاطون كبهاء للحق والخير. هكذا كانت فلسفة أفلاطون تعبيراً جيداً عن رغبة الإنسان في الابتعاد عن عالم الانقضاض والتغيير المستمر، وبدلاً من ذلك، التوجه نحو عالم المثل الثابت والأفكار الأبدية.