باقر صاحب
أهمية هذا الكتاب اليوميات للشاعر والكاتب العماني سيف الرحبي عن جائحة كورونا، تنبعُ من أنه يريد أن يكون (مقاربة مباشرة كواقعة في سلسلة الوقائع والأحداث المخيفة القاتلة التي حلت بالبشرية والعالم). هذا الوباء بشموليته الكوكبية، أعاد الحياة إلى (نقطة الصفر) ومنها بدأ البحث عن خلاصٍ باستعادةِ مواجهات أسلافنا، عندما تنتشر بينهم تلك الأوبئة.
ثُبِّتَ في غلافِ الكتابِ عنوانٌ ثانوي (أوراق 2020)، أي يومياتُ الكاتب في ظلِّ جائحة كورونا في العام المذكور، أما العنوانُ الرئيس (في النور المنبعث من نبوءة الغراب) ينفتحُ تأويلهُ على ما يُذكرُ بشأنِ الغراب في الأساطيرِ اليونانية، حيثُ” ترتبط الغربان بإله النبوءة عندهم، أبولو، حيث يُقال إنها كانت رمزاً لحسنِ الحظ، وكانت ترسلُ رسائلَ الآلهة في عالم البشر”.
يذكرُ الرحبي أنّه كان هو وزوجته، في تايلند لإجراءِ فحوصٍ طبية، حينما بدأ الوباءُ بالشيوع، وينقلُ ظنونهُ بأنه سيكونُ كسابقاتهِ من الأوبئة، وستتمُّ معالجتهُ عبر وسائلِ الطبِّ الحديثِ وينتهي الأمر، كان لا مبالياً إزاءه، فبعد انتهاءِ الفحوصِ الطبية، انتقلَ إلى جزيرةٍ بحريةٍ للاستجمام والهدوء.
لاحقاً اختلفَ الأمرُ عن طبيعةِ هذا الوباءِ عند الرحبي، فقطعَ سفرتهُ وعادَ إلى العاصمة (مسقط)، التي سبقته إليها زوجته.
وخضعَ للعزلِ المنزلي، لا يخرجَ أبعدَ من الجنباتِ المحيطةِ بالمنزل، وحين يخرجُ بجولةٍ عامةٍ في سيارته، يتحسّسُ الهدوءَ الكبير، ويسارعُ المتجوّلُ فيها إلى عقدِ مقارناتٍ بين ما كانت عليه الحياةُ في (مسقط) وبين واقعِ الحالِ الآن.
الرحبي، مؤلفُ (أرق الصحراء) وهو كتابُ يومياتٍ أيضاً، حين يذكر ولديه (عزّان) و(ناصر) يتطرقُ إلى الفوضى والنظام، على اعتبارِ أنَّ فوضى الأطفال تظلُّ بريئة.
هذا الربطُ مع ما خلّفه الوباء ينطلق من ( انسحاقٍ كاملٍ بين الفنتازيا والواقع)، أي يشير إلى انعدام الثنائيات مثل الخيال والواقع والوجود والعدم.
لكنَّ الأطفالَ ببراءتهم، يحاولونَ في لعبهم استعادةَ تلك الثنائيات.
وهنا يشير الرحبي إلى الفيلسوف ( برونو باتلهايم) وانتباهه إلى أنّ” الأبنية والقصور التي يشيّدها الأطفال ذات النزوع العدمي في شاطئ البحر ثم يدمرونها أو تمحوها الرياح وتسفوها هباءً وعدماً، تختزل الوجود بأكمله منذ النشأة وحتى النهاية والمصير الحتمي “ص: 19.
الرحبي، صاحبُ كتاب (شجرة الفرصاد) وهو سيريٌّ أيضاً عن المكانِ والطفولة، تتميزُ يومياتهُ بعذوبةِ السَّرد، تستشعرنا بتذكّرِ يومياتنا حين كنّا داخلَ قفص العزل الوبائي، فهي لا تخفي كل ما يتعلقُ بتحركاته.
وما دامَ في العزلِ المنزلي فإنَّه يلاحظ بدقةٍ كلَّ التفاصيل البيتية.
يكتب الرحبي أحياناً يومياته بصيغةِ الضمير الغائب، لربّما يريدُ بذلك التخلّي عن نزعةِ تضخيمِ الذات التي تسود كتب المذكرات .
يستيقظ فجراً لتأمّلِ العالم، وصحوِ كائناتهِ من أشجارٍ وطيور، ومن ثمّ يذهبُ مشياً إلى وادي (غلا) لتأمل سحر الطبيعة العمانية.
يتعمّد الرحبي تكرار عبارة ( يفتح النافذة...) في مقاطع عدّة، كأنّ هذا الفتحَ انطلاقةٌ لتأملاتٍ جديدةٍ بشأن هذا الوباء وما فعله بالعالم، إذ وحّد جهاتِ الأرض.
في رحابِ تلك التأملات، يرى الرحبي بأنَّ هناك فرقاً جوهرياً بين هواجسنا ومخاوفنا في الحياةِ العادية، وبين مخاوفِ حياةٍ استثنائيةٍ يضيِّق عليها وباءٌ كوني، فبدت كتاباتُ أدباءٍ وفنانينَ وفلاسفة، بنبرةٍ حزينةٍ يائسةٍ في ظل الجائحة، لم تكن سائدةً حتى لدى أسلافهم ممن ذاقوا الحروب الوحشية.
وهنا يتساءل عن أي طرقٍ وأساليب يستطيع التعبيرُ الأدبي والفني فيهما مقاربةَ هذا الحدثِ الكوني..
وليس مصادفةً أن يشرعَ الرحبي في قراءةِ كتابِ (الموت السعيد)، لألبير كامو، فهناك تناغمٌ بين الموتِ الكوني، والموتِ الفردي الذي يشكلُ هاجسَ بطلِ هذه الرواية، متمثلاً بنزوعهِ الانتحاري، كأنّ الرحبي يشيرُ إلى أنّ الكلّ يفكرونَ بقضيةِ الموتِ في جميعِ الأرجاء.
الرحبي يمزجُ سردياته ببعضٍ من أشعاره، في المقابل، هناك نثرٌ على شكلِ مقاطعِ قصيرة، فيها مديحٌ لعصفورِ الفجر، لعلَّه “يزفُّ حلماً إلى الأسرى والمتنبئين باقتراب وعد الانعتاق والحرية”: ص105 .
أسلوبُ الرحبي في هذه اليومياتِ ممتعٌ جداً، يخرجُ من الخاصِ إلى العام دائماً، من ذاته والعائلة إلى الطبيعة، ومن الطبيعة إلى متابعاتهِ قراءةً ومشاهدة، ليؤكدَ أنَّ العزلَ الإجباري كانِ سجناً كونياً كبيراً، وتبقى مهارةُ الإنسانِ في إيجادِ كوىً طبيعيةٍ ومعرفيةٍ في الخروجِ الجزئي من هذا السجن.
وهنا يمكنُ تقبّلُ أطروحةِ أنَّ مراثي الرحبي المنتثرة في هذا الكتاب
لمعارفهِ من أصدقائهِ الأدباءِ الذين تُوفّوا بسبب الجائحة، دليلٌ على تغذيةِ هواجسهِ في الانتصارِ بالكلماتِ على الموتِ الشمولي الذي دهمَ العالمَ أجمع.
يقالُ عن القاصِ السوري زكريا تامر بأنّهُ شاعرُ القصةِ القصيرة، ونقولُ هنا إنَّ الرحبي في هذا الكتاب شاعرُ اليوميات، فهو شاعرٌ وساردٌ وكاتبُ يوميات، أوجعَنا كثيراً، لأنها يوميات كورونا 2020 ، كثرةٌ من الأدباءِ كتبوا مثلَ هذه اليوميات، مازالت مختبئةً في الأدراج، لكنَّ الرحبي تجرّأ فأخرجها إلى النور بمآسيها وذكرياتها المريرة.