باسم سليمان
عبر مونولوغ داخلي يَشرع القاتل المحترِف (مايكل فاسبندر) الذي لا نعرف له اسما محددا، على الرغم من كثرة الأسماء التي ينتحلها خلال الفيلم، بتلاوة دستور العمل: "التزم بالخطة، لا تثق بأحد، تصرّف وفق تخطيط مسبق، لا ترتجل، لا تقاتل إلا في المعركة التي تلقيت أجرًا عنها". هكذا يفتتح المخرج ديفيد فينشر سرديته السينمائية في فيلمه الجديد لعام 2023 (القاتل/The Killer) )، الذي لم نكن لنعرف عن شخصيته شيئا قبل أن يرتكب خطيئته، وذلك حين يفشل في اغتيال إحدى الشخصيات المهمة، فتضاء الشاشة البيضاء.
وكما كانت الخطيئة التي ارتكبها آدم في الجنّة سبب التواجد البشري على الأرض، ومن ثم اشترع الغفران ليتمكّن أبناء آدم من العودة إلى الجنة. كذلك أدّى إخفاق القاتل المحترِف في إنجاز مهمّته، إلى انتهاء الحالة الشبحية التي كان متواجدًا فيها، التي لا تسمح لنا بمعرفة شيء عنه إلّا من خلال نتائج أفعاله، المتجسِّدة في طرائده التي قنصها بكل برودة إعصاب وعاطفة ميتة. ومن هذه الزاوية سنفهم سبب المونولوغ الذي ابتدرنا به القاتل، فهو الآن مرئي لنا، عبر كاميرا فينشر، وأصبح ملزمًا بتبرير تواجده ضمن مشاهد التصوير، وكأنّه يطلب منّا غفرانًا ما.
يحاول القاتل المحترِف التخلّص من تبعات مهمّته الفاشلة بالعودة إلى مخبئه، ليجد أنّ مشغّليه قد اقتحموا قلعته، وأذاقوا صديقته الويلات، فيقرّر الانتقام! وهنا يحدث أول خرق لدستور القتل، لأنّ العاطفة كانت هي المحرِّك، لا الثمن الذي سيتقاضاه؛ على الرغم من تكراره لقواعد الدستور في كلّ عملية قتل يقوم بها بحقّ مشغّليه. وكأنّه عبر تكرار قواعد دستور القتل يحمي نفسه من أن يقع في فخّ التعاطف، فهو يجهز على حياة قاتلين محترفين مثله، لم يتجاوز مقتضيات عملهم، وما طُلب منهم من قبل أرباب عملهم، فلقد كانوا يردّدون مبادئ دستور القتل مثله، قبل إقدامهم على أيّة عملية تصفية، فأين يكمن خطأهم، حتى يعاقبهم؟ ينتقل القاتل المحترِف من انتقام إلى انتقام بعزيمة ثابتة وتخطيط مسبق، وكأنّه يلعب الشطرنج، فيسقط خصومه واحدًا واحدًا، فالمخرج فينشر هذا ملعبه وخاصة في أفلامه: (Seven – Zodiac) ولن تصعب عليه إدارة مسرح القتل، حيث الاعتناء بأدقّ التفاصيل، وخاصة إذا كان يملك حصانًا جامحًا كالممثّل مايكل فاسبندر الذي عرفنا بسلسلة أفلام (X-Men) حيث لعب شخصية ماغنيتو التي تعرّضت للاضطهاد لأنّها من المتحولين، فتقرّر الانتقام من البشر. وفي هذا الفيلم لا يقدّم لنا فينشر قصة تبرّر تحوّل فاسبندر إلى قاتل محترف، فلماذا تعاطفنا معه، كما فعلنا مع جان رينو في فيلم (The Professional)؟ لربما المشهد الأول في الفيلم يوضح سبب انجذابنا نحوه- مع أنّه مجرد قاتل محترف آخر- عندما أخطأ وأصابت رصاصته تلك الأنثى باللباس المثير، التي كانت ستقضي ليلة مازوخية مع الهدف الذي طُلب منه اغتياله. تلك الأنثى التي تحمل بيدها سوطًا، لا تختلف كثيرًا عن القاتل المحترف، فكلّ منهما ينجز ما يُطلب منه. إذن كانت الشخصية التي طُلب من القاتل المحترِف أن ينهي حياتها فاسدة، فهل كان القاتل المحترِف لا يقبل عملًا، إلّا إذا تأكّد أنّ الشخص المطلوب قتله فاسدًا ويستحق أن تزهق روحه؟ لن نعرف ذلك من خلال اعتراف منه، لكنّ أفعاله بمكان ما تقول ذلك على الرغم من ترديده الدائم لدستور القتل، وبأنّه كائن لا يعترف بوجود الإله، لا تعنيه الأخلاق بشيء. من هذه الافتراضات يدخلنا فينشر في متاهته الأخلاقية ليكشف فينا ميلًا لأن نصبح قاتلين كرمى لعيون عدالة ما.
لكن لنتأمّل للحظة مونولوغ القاتل المحترِف، الذي يُذكّر به نفسه القواعد الصارمة لدستور القتل، فهل كان يفعل ذلك لينجز مهمته بشكل كامل ومهني، أم لإدراكه بأنّه قد خرق مبدأ البراغماتية التي لا تعترف بالعاطفة؟ هو بالتالي يتمنّى لو أنّ القتلة المحترفين مثله قد ارتكبوا خطأ ما، بأن لا يكونوا ميكانكيكيين لهذه الدرجة، لربما يعفو عنهم. لكن ألم يكن هو بهذه البراغماتية عندما غتال إحدى الشخصيات! فما الذي جرى؟ لقد حدث التغيّر العاطفي في شخصيته الباردة حتى السكون المحض، ونرى ذلك عندما تطلب منه سكرتيرة مشغِّله أن يقتلها غيلة، كي يستطيع أولادها الحصول على التأمين الذي وضعته على حياتها. وفي مشهد آخر يشرب نخبًا أخيرًا مع قاتلة محترفة عذّبت صديقته، قبل أن يجهز عليها!
هذه الإشارات في الفيلم تقصّد فينشر تمويهها بشدّة، وخاصّة عندما كان القاتل المحترِف يفشي لنا بدخيلته عن نظرته إلى الحياة التي يرفض بموجبها أي تعاطف مع أحد، وكأنّ فينشر يقول لنا: لن أضع لكم فتاة كماتيلدا (ناتالي بورتمان) في فيلم (The Professional) تخلب ألبابكم كم فعلت بليون، بل سأسخر منكم عندما تتعاطفون وتنجذبون إلى القاتل المحترِف لمجرد أنّه أراد الانتقام، أمّا ما أريدكم أن تستنتجوه، بأنّ الخطأ الذي ارتكبه القاتل المحترِف؛ هو ما أظهر إنسانيته المخفية!