ابتهال بليبل
تتمحور عوالم (فرانسيس بيكابيا) في أغلبها حول مقولته الحركيّة النابضة التي ترسّخ رؤياه للكون: "رؤوسنا مدوّرة كي تغير أفكارنا وجهتها" نحن إذن نتغيّر دائما ونتبدّل، لذا من الغريب والمعيب أن نظل في زاوية واحدة ومنظور واحد، فمن هنا هو يقترح في رسوماته للوجوه والعيون البشريّة المتنوعة والكثيرة رصد التوتر الداخلي بهدف التغيير، ومن ثمّ الدوران حول مركز الفكرة ووجهتها.
وقد أظهر أسلوبه العبثي والساخر خصائص مزاجه المتقلّب والمعقد، وهو يكرّر مراراً طريقة تعريفه لمشاعره الدقيقة، ويظهر كذلك الخيط السردي البليغ الذي تتبناه الألوان وهي تشكّل جملتها، فيبدأ بالتلويح لما يراه في ذهنه هو.
ويرسم شيئا موجوداً بالفعل، ولكنه في الوقت ذاته يحاول أن يُشير إلى شيء جديد بعيد حتى عن هويَّته القارّة، فالوجوه نسبها عابثة، مبعثرة، فالعيون تتكرّر في حركة تراتبيّة، ربما لتقول إننا نرى أكثر ممّا يجب، ومثلها الأنوف والأفواه، أي إنّ حواسنا ليست بذلك الثبات الذي نظنه ويفترضه الآخر فينا، هي حواس مكثّفة، عاصفة، غامضة، موغلة في عوالم لا نعرفها لتهبنا، وأحيانا رؤى جديدة لا يتسع لها الواقع.
لذا تبقى حبيسة (الفكرة) التي لابدّ لها من الدوران، لأننا نمتلك رؤوسا مدورة، ويمكننا أيضا أن ننظر إلى هذه الرسومات -في ظاهرها- على إنها تأملات لشخص ما يحاول إيجاد طريقة ما لمساعدة نفسه، على إلتهام المعرفة بشغف عجيب، تلك المعرفة التي تعوم أمامها، لكن سرعان ما تتحول إلى شيء مختلف تماماً.. شيء يشترك في حتمية الهرب من الواقع، والإشارة إلى تفاصيله المهملة، وليس إلى مسبباته وظروفه الواقعيّة.
إنّ معظم أعمال فرانسيس بيكابيا (1879 - 1953) تقع في ثلاث مجاميع مختلفة، نجد في الأولى، التكعيبية إذ يواجه الحياة -الصاخبة والمحرضة والقامعة- من حوله بإحساس مشوه، ولكن من خلال أشكال هندسية ملونة يعالجها على وفق رؤياه الخاصة التي تجد في اللون تلميحا إلى فكرة ومعنى.
وفي الثانية، الدادائية التي تفند الشّخصيات من خلال تقمّص عدائيّة هذا الفن تجاه التناقضات التي يفرضها الواقع، في حين جاءت الثالثة سرياليّة برسومات غامضة عن نساء عاريات، يشبهن تماماً الأفكار التي تتمخض في ذهن الكائن البشريّ لحظة تشكّلها المريب. إنّ تمعن العين في لوحاته يجبرها على الافتراض إنّ هذا الرجل كان يمتلك أكثر من حاسة، حتى إن حاسته السادسة مجرّد رقم فيمكن أن نلمح حواسا أخرى لها أرقام تصاعديّة أعلى، ولعلّه في انتقالاته الكثيرة وعيشه في عصر التحولات العظيمة في التكنولوجيا، فضلا عن معاصرته للحربين العالميتين جعلت منه بهذا الاتساع الشاسع في الرؤى التي من دون شك ولا ريب لها ملامح كونية ستظل وهاجة ودالة إلى عهود قابلة كثيرة.
إنّ المزج، أو الاختلاط، أو التآلف ما بين شخصياته يضعنا دائما في مواجهة العلاقة الحرجة ما بين الرجل والمرأة، حين نسأل -بكثير من البراءة- كم من المتشابهات فيهما.. وهل هما حقا آخر ونصفه.. أما هما زيت وماء لا يمتزجان أبدا.
لقد علّب (فرانسيس بيكابيا) لحظات الزمن الذي عاشه باحترافية عالية، وحاول أن يبتكر ألوانا جديدة في مواجهة موضوعات مكرّرة، فنجح في جعل (الأصفر، الأزرق، الأخضر) تظهر في تدرجات جديدة صادمة تبهر من يتأملها دائما.