قتلة زهرة القمر في غزّة

ثقافة 2023/12/13
...

أحمد عبد الحسين

قبل خمس سنوات صدر كتاب للصحفي الأميركي ديفيد غران بعنوانه الطويل: “قتلة زهرة القمر، جرائم قتل الأوساج وولادة مكتب التحقيقات الفيدرالي”. وانتشر الكتاب سريعاً، ككلّ مؤلفات غران، فبعد أسبوعين فقط من صدوره احتلّ قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في قائمة نيويورك تايمز، ثم حاز جوائز صحافية عدّة، قبل أنْ يغدو حديث الجميع في هذه الأيام إذ استلهمه المخرج الكبير مارتن سكورسيزي لتحفته السينمائية الجديدة وسمّاها باسم الكتاب ذاته “قتلة زهرة القمر”.
سكورسيزي مولع بالكشف عن المخازي التي يعرفها الجميع لكنّهم بالكاد يستطيعون التحدث عنها، وأفلامه من مثل Mean Streets وRaging Bull وCasino وGoodfellas لها هذه السمة المشتركة: إنه يرينا ممارسة الانحطاط الإنسانيّ على يد أناس يتصرفون بتلقائية ويعيشون عارهم كما لو أنه السبيل الوحيد للحياة. وهو في فيلمه الجديد لا يخرج عن هذا السياق بل يعمّقه ويضيف إليه إيقاعاً بليغاً من الصمت، الصمت أمام الخزي العموميّ الذي يتواطأ عليه الجميع. من دون أن ننسى أنَّ له فيلماً أخرجه قبل سنوات عنوانه “الصمت”.
الفيلم يروي قصة حملة الإبادة الجماعية التي شنّها الأميركان ضدّ أصحاب الأرض من أبناء قبيلة الأوساج التي تتعرّض لتهجير من أرضها في كانساس ليتم تجميعهم كيفما اتفق في كاليفورنيا، ثم بعد أن يتضح أنَّ أرضهم الجديدة غنية بالنفط تبدأ مأساتهم الحقيقية: حملات اغتيالات بالسمّ أو بأسلحة نارية، أو بسلاح القانون الذي نصّ على أنَّ أمة الأوساج غير مؤهلة للتحكم في أموالها، ففرض على كل فرد منها أن يكون له وصيّ من البيض، ثمّ أخيراً بسلاح أشدّ شيطانية ومكراً لأنَّ له مساساً بالعاطفة والوجدان، يقضي بأن يتزوج الأبيض من امرأة أوساجية سرعان ما يقتلها ليستولي على أرضها.
منذ بداية الفيلم يخبرنا سكورسيزي شيئاً عن انعدام الشهود في هذه المذبحة حين يعرض جثث الأوساج مع عبارة “لم يتم التحقيق في مقتله”، وفي كل فترات الفيلم نرى حرصه على إظهار القاتل على حقيقته لا باعتباره وحشاً أو شيطاناً بل بوصفه إنساناً تامّ الخلقة مهذباً يتعاطف في خطابه مع المقهورين علناً لكنه يقتلهم سرّاً، يحضر اجتماعاتهم الغاضبة ويغضب معهم لكنه يغتالهم واحداً واحداً. وحين يُسأل عن ذلك يجيب بيقين المتديّن: الله يريد لهذه الأمة أن تنقرض لنكون نحن بدلاً عنهم.
هذا القاتل المهذب هو أنموذج الأميركي الذي أباد أمماً من السكان الأصليين، وهو الذي نراه عياناً في الإبادات الجماعية التي تعرّض لها الفلسطينيون منذ 1948 على يد اليهود ومن ورائهم الأميركي ذاته، وباليقين الدينيّ الناصّ على أنَّ الله اختار له أمة من دون الأمم لتبيد الشعوب ولتكون لها الأرض من الفرات إلى النيل.
ولأنَّ الشهود غائبون، كان المشهد الأخير في الفيلم لافتاً موحياً وعميقاً: يظهر سكورسيزي نفسه ليكون هو الشاهد على كلّ ذلك، كانت الدقائق الأخيرة التي تكلم بها سكورسيزي أشبه بهمس في أسماع الجمهور: إنَّ صمت القتلة وصمت المتواطئين معهم لن يقضي على الشهود كلهم، سيطلع من قلب الصمت صوت وسيُسمع ولو كان همساً.