التشكيليَّة المصريَّة هبة حلمي في معرضها {بقاء}: لم أستطع أنْ أقضمَ الحسرة وأبتلعها

ثقافة 2023/12/13
...

رولا حسن

لم تفكر الفنانة المصريَّة هبة حلمي كثيراً، فبينما كانت تحضّر لمعرضها بدأت حرب الإبادة في غزة، الموت طوفان يكتسح كل شيء، الموتى بالآلاف حرب إبادة منظمة وما باليد حيلة، العجز كان حالتها كما حالة الشعوب العربية التي بقيت رهينة حكوماتها، والموت يحصد الأطفال والنساء دون تمييز فما كان من هبة إلا أن بدأت بمعرضها “بقاء” وتقول بصدد ذلك :”وأنا على مشارف الانتهاء حدثت أمور كبرى على مقربة من النفس والجغرافيا”.
بين ليلة وضحاها وجد الناس أنفسهم أمام شاشات التلفزة والهواتف يتابعون إبادة جماعية للشعب الفلسطيني على الهواء مباشرة. فتحول الشهيد إلى رقم وأصبحت الدقائق عدادات للموت وغروب الشمس إنذاراً للدخول في مملكة الظلام، وعالم سفلي تحت الركام، وشروقها كشف سافر عن وجه هذا الكوكب الوحشي، فماذا بإمكاني أن أفعل، وليس بمقدوري أن أتجاهل هذا كله، وأبتلع الحسرة التي لن تهضم. لذا غيرت هبة كل شيء وكان “بقاء”.وحين سألنا هبة لماذا بقاء؟
أجابت باعتزاز وألم شديدين
  بقاء هو بقاء الحياة بالأساس
“... بقاء القضية العادلة، بقاء المقاومة، بقاء الشعب العنيد، بقاء غزة حرة وبقاء الشهداء أحياء…”، هذا ما كتبته في كلمة المعرض التي يستهل بها الزائر قبل الدخول إلى ساحة المعرض.
لقد شاهدنا جميعا، ونظل نشاهد هذه الإبادة الوحشية لأهلنا في غزة وبيوتهم ومدارسهم، مشافيهم، طرقاتهم، مخابزهم، ومتاجرهم.. كل شيء، هل هذا يعني أنَّ غزة كلها موت.. بالطبع لا. غزة تضج بالاستبسال والمقاومة والصراع الأسطوري من أجل الحياة. ما بين السيدات والأطفال الذين يصنعون الخبز على الحطب، والأطقم الطبية التي تفضل الاستشهاد على ترك مرضاها، وهم تحت القصف وما بين جنود المقاومة الذين يقاتلون في المسافة صفر، لا أرى غير قتال من أجل وجود أجمل وأكرم وأرقى. وبالتالي بالنسبة لمعرضي اخترت أن أدون الأسماء مقاوِمة أنا الأخرى فكرة أن يتحول شهداؤنا إلى أرقام كانت ترعبني، لذا اخترت أن أدون أسماء الأطفال الشهداء مع أطفال أخر وكبار أيضاً من دوائر معارفي ومعارف المعارف الذين التقيت بهم لأول مرة خلال هذه التجربة.
كتبنا معاً هذا السجل على مساحة ٢٦ متراً طولاً من القماش الأبيض، وتتخلل هذه الأسماء أجزاء من القماش المحاك عليه ألقاب العائلات. لقد كان مؤلماً جداً أن أخط بيدي أسماء ٢٠ طفلاً كلهم من عائلة واحدة، كانت صدمة لي أثناء العمل، ولكل من شارك. ولذلك رأيت أن أحيك أسماء هذه العائلات على سطح القماش، فالخياطة هي رمز الفعل والخلق الجديد والبناء، فقد كنت أفكر في فعل هؤلاء السيدات الفلسطينيات المطّرزات صانعات الجمال وحافظات التراث. أليست هذه هي الحياة ذاتها.

يقسم المعرض على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى أثناء دخول الزائر إلى المعرض تواجهه ستائر قماشية مسدلة وممتدة على الأرض كتب عليها أسماء عائلات الشهداء التي أبيدت بالكامل تقريباً متضمنة أسماء كل أفرادها من رجال ونساء وأطفال ستجد عائلة الجوابرة وأبو جزر والصوالحة....إلخ على سبيل المثال لا الحصر يمر الزائر بجانب هذه الستائر ليعبر إلى المرحلة الثانية في المعرض التي تتألف من صور لحنظلة الرمز الفلسطيني على قطع فخار مكسرة وقبل مرحلة الشواء الكامل وعلى الزائر أن يكون حذراً حتى لا يدوس على حنظلة ويزيد من قهره وعذاباته.
في المرحلة الثالثة من المعرض تمتد الستائر القماشية من الأعلى إلى الأرض لكنها لا تلامسها وإنما ترفع على ما يشبه طاولات كتب على الستائر أسماء عائلات أخرى لكن تركت فراغات.
 في هذا الجزء التفاعلي كما تسميه هبة قامت بدعوة الناس كباراً وصغاراً ليدونوا أسماء أشخاص يعرفونهم من هذه العائلات والهدف من هذا التدوين حفظ أسماء شهداء غزة ولا سيما الأطفال في مكان آمن خوفاً من النسيان بحسب تعبير هبة.
  * شاركت الأطفال في كتابة أقرانهم ممن استشهدوا برصاص الاحتلال وقنابله لماذا الأطفال وماذا قصدت من ذلك؟
 كنت أود وأنا أسجل أن يكون هذا التسجيل عملية تشاركية كما قلت لك، عملية مستمرة يكملها زوار المعرض أيضاً. بدأت أتكلم مع المحيطين بي. دعوتهم هم وبناتهم وأولادهم. قد تبدو دعوة الأطفال من خلال الأمهات الصديقات للكتابة قاسية ولكنها ليست هكذا أبدا. مهما بلغ بنا نحن الأمهات أو الآباء درجة حماية أطفالنا من المشاهد الدامية والقتل الممنهج على الشاشات لن نستطيع أن نتحكم في ما يشاهدونه، أو ما يحصلون عليه من معلومات من خلال أترابهم، ولذا الأفضل دائما أن نكون مصدراً موثوقاً به.
وعندي قصة سوف أحكيها قد تلخص إجابتي عن سؤالك. كلمتني صديقة وهي أم أيضاً، بعدما كنت قد دعوتها للكتابة، قالت لي إنَّ ابنتها، ١٠ سنوات، تسألها عن الموت، وتسأل إن كان الأطفال يموتون؟ فقد كانت تعتقد قبل غزة أنَّ المسنين فقط هم من تنتهي حياتهم. بعد شرح ومحاولة للإجابة رأت الأم أنه ربما الكتابة والتسجيل لهؤلاء الشهداء الأطفال بيد صغيرتها قد يجعلها تشعر بأنها تسيطر على هذه المخاوف وربما تفعل شيئاً لمن ذهبوا بالتدوين. فجاءت بها لتكتب.
أدهشتني الطفلة عند مشاركتها لأول جلسة بقدر التركيز والاستغراق في الكتابة وفي اليوم التالي كلمتني الأم تقول إنَّ ابنتها تطلب المجيء واستمرت الطفلة تأتي بانتظام.
ما أود قوله إنَّ مشروع هذا السجل وتدوين أسماء شهدائنا من الأطفال جعل كل من شارك فيه يشعر بأنه يفعل شيئاً، حتى ولو شيئا قليلا، لكنه شيء يجعله فاعلاً وليس متفرجاً عاجزاً.
نسجلهم بالأسماء الرباعية والسن، لنعرف نحن المدونين أنَّ هذا الطفل هو ابن عم هذا الطفل وأنَّ هؤلاء لهم جدان شقيقان، فتتشكل شجرة العائلة في الخيال ونرى حياتهم المعاشة في البناية الكبيرة التي سقطت، نراهم يلعبون ويتشاجرون في الساحات والأزقة. باختصار نجعل لهم حياة أخرى تعيش معنا. إنَّ الذاكرة هي أداة من أدوات النضال.

لكن لماذا معرض بقاء الآن هل هو تعويض عن عجزنا كشعوب عربية؟
هذه الإبادة الجماعية جعلت الشعوب في واد والحكومات في واد آخر، وهذا ينطبق على كل بلاد العالم. الشعوب عاجزة كما تقولين لأنها ليست صانعة القرار. لا أظن أنَّ معرضي تعويض عن شيء، أنا فنانة تشكيلية وخزافة، ما أمتلكه هو أدوات تعبيري البصرية بهذه الأدوات وهذه اللغة أعبر.

“...إنَّ كياني هذا الذي يعيش هذا المأزق يحتاج هو الآخر إلى قناة من قنوات التعبير عن غضبه، وحزنه. ليس في مقدوري أن أقضم الحسرة وابتلعها.. لن تُهضَم…”

هذا ما كتبته في كلمة المعرض بشأن احتياجي إلى قناة من قنوات التعبير أنا ومن شاركوا معي. والآن أثناء المعرض ومجيء الزائرين ومشاركتهم في الكتابة، أصبح المعرض ساحة من ساحات الكلام، والمواساة والتذكر لما حدث في الماضي، أقول ساحة لتشكيل وعي جديد معاً. هذا يحدث في كل مكان على كوكب الأرض الآن بلا مبالغة. الوعي يمتد، لم تشهد للقضية الفلسطينية حضوراً عالمياً بهذه القوة من قبل، إنها القضية التي تمثل ثورة الشعوب اليوم.
 في إحدى مراحل أو أقسام المعرض صور لحنظلة مصنوعة من الفخار مرمية بجانب أقدام المارين هل تحدثيننا عن هذه المرحلة وما أردت منها؟

حنظلة هو إمضاء الفنان ناجي العلي. هو طفل المخيم الفقير المناضل كما عاش ناجي ذاته، حنظلة هو أحد أطفال الحجارة، هو من يقتله قذف الكيان الصهيوني في غزة اليوم وهو من يخرجونه من تحت الركام. لكنه يظل حياً مهما بلغ به الموت.

أنا خزافة أيضاً، أتعامل مع الطين والأرض يوميا، وحيث أنَّ الصراع الفلسطيني الصهيوني هو بالأساس على الوجود في أرض فلسطين فلم يكن هناك خامة أكثر صدقاً وتعبيراً من الطين عما يحدث. لذا طبعت حنظلة على الطين لتكوين وحدات مسطحة، ثم تم التجفيف، هذه المرحلة هي الأكثر هشاشة للطين قبل دخوله إلى فرن الخزف للاستواء. استخدمت هذه الوحدات دون استواء في عمل مركب يفترش جزءاً من أرض المعرض. على الزائر أن يتمهل وينظر بدقة أين يضع أقدامه بعيداً عن حنظلة وإلا أصبح هو الآخر شريكاً في الجريمة.