المكتبة التعاونيَّة.. إحياء تقاليد الكتاب الورقي

ثقافة 2023/12/13
...

هدى عبد الحر

لم تكن (المكتبة العامة) في خيالنا إلاّ بناية وقورة  ومهيبة، قديمة عادة، وغالبا ما يكون بابها من الخشب الصاج الفخم، وفي مدخلها حديقة صغيرة من أشجار الأكاسيا أو اليوكالبتوس، وزهور بألوان مختلفة يخيم عليها صمت مطبق، وتعطر أجواءها رائحة الورق العتيق، فللورق رائحة الخبز الطازج ومحتواه يسدّ رمق الفكر الجائع كما تقرّر المقولة الشائعة .
نقصدها دائما بفرح غامر قاطعين مسافات طويلة  لهدف فكري وثقافي ومعرفي، وفي مسامعنا يرنّ قول مدرسة اللغة العربية التي تحثنا على القراءة فتكرّر  كلمة نجيب محفوظ: (قارئ الحرف هو المتعلم وقارئ الكتب هو المثقف)، ولا تزال ذكريات الكثير من المكتبات العامة التي عشت فيها ساعات المطالعة الرائعة راسخة في بالي، هي والساعات الطويلة التي قضيتها وأنا أنقل المعلومات في دفاتري أو أدوّن ملاحظاتي، أو أقلّب في جذاذات العنوانات أبحث عن كتاب  في المجرات الخشبية الأليفة .
أما اليوم فقد صار الأمر أيسر وأسهل، وسط التطورات الكثيرة والمتسارعة التي حصلت في عالم الكتاب والمعرفة، إذ تغيّرت تقاليد القراءة تماما، لذا تبدو فكرة المكتبة التعاونية التي ظهرت في العديد  من البلدان العربية، مثل الأردن ولبنان وفلسطين والعراق، حيث سجّل لها حضور في بغداد ثم في النجف الأشرف - بمبادرة من الأستاذ حيدر خطاب- والنجف هي أم المكتبات ومدينة الكتاب التي تتوارث  حبه وطباعته من جيل لجيل .. تبدو هذه الفكرة مهمة جدا وخطوة نحو إعادة الهيبة للكتاب الورقي .
فقد ظهرت فكرة المكتبة التعاونية لأنها جزء من حراك ثقافي مهم لابدّ من أن نسعى له ولتطويره، يقول حيدر خطاب: وقد أحببت أن أشارككم فكرة هذه المكتبة  الجميلة .
إذ كانت في البداية مقتصرة على مكتبتي الشخصية، وبعد أن طرحت الفكرة على بعض الزملاء تضافرت جهود الخيرين، أمثال الدكتور تحسين رسول محيي الدين الذي أهدى لي كتابه، وبعض المؤسسات الثقافية والفنية والأدبية والشخصيات، مثل الأستاذ فاضل الحميري، وبعد تأسيس رواق الثقافة والفن وبدء فعالياته كل يوم جمعة، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، فتحت لها جناحاً في هذا الرواق. وفكرة المكتبة التعاونية هي الاشتراك بها بعشرة آلاف دينار عراقي في كل سنة،  ويحقّ للمشترك في المكتبة استعاره كتاب من المكتبة التعاونية لمدة محدودة، وتوجد خدمة متابعة القراء الكرام عبر الاتصال بهم والطلب منهم كتابة مقالة مفصلة عن هذا الكتاب المستعار من قبلهم أو تصوير فيديو بهذا الخصوص، ويمكن للمشترك بالمكتبة التعاونية استبدال الكتاب بكتاب آخر بمبلغ ألف دينار عراقي فقط، وهذه الاشتراكات السنوية ومبالغ بدل الاستبدال تخصص لشراء الكتب وتجليدها أيضا للحفاظ عليها من التلف، وبهذه الفكرة للمكتبة التعاونية حققنا ثلاثة أهداف رئيسة؛ أولها التنمية المستدامة، فلا تحتاج إلى ميزانية مالية كبيرة، وثانيها التحفيز على القراءة والكتابة في آن واحد، وثالثها جعل القراءة حدثا يوميا له مكانة مهمة ولا يمكن الاستغناء عنه  .
إن المكتبة التعاونية تجعل من القراءة هما مشتركا، فعلى الرغم من سهولة الحصول على الكتاب في وسائل التواصل وعن طريق ملفات (البي دي أف)، .. إلاّ أن الاحتفاء بالكتاب الورقي سيبقى تقليدا ثقافيا  معرفيا يعيد للقراءة طقوسها  الجميلة .