عفاف مطر
حتى آخر يوم في حياتها التي امتدت لـ 48 سنة، لم تتوقف الفيلسوفة والأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، عن إعلان رأيها الصريح والواضح في كل أزمات عصرها، ولم تتوقف يوماً عن مناصرة قضايا الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ليس في فرنسا فقط بل في كل مكان في العالم. كانت دي بوفوار تتفق مع سارتر على ضرورة مشاركة الكاتب والأديب في مشاكل مجتمعه وعصره، وكانت تعتقد بأن الكاتب الحقيقي هو الذي يكرس جهده الأكبر لتعريف الجمهور بحقوقه وقضاياه، ويوجه كتاباته لنصرة المظلوم ومجابهة الظالم بشكل صريح وواضح وقوي. كتبت في مذكراتها أن بعض أصدقائها تمنوا عليها أن تخفف من لهجتها القاسية وأن تتحدث بتوازن واعتدال، لاسيّما حين تنتقد بعض الحكومات في العالم، ومن ضمنها حكومة بلدها الحكومة الفرنسية، لكنها قالت لهم: إذا شئنا أن نفجر البالونات فعلينا أن نغرس فيها أظفارنا من دون تملق، لا أن نتحدث معها بلطف فهذا لن يجدي. ناصرت دي بوفوار ثورة السود في أميركا، وكتبت مقالات كثيرة عن الظلم الذي يتعرض له الزنوج هناك، ووقفت إلى جانبهم وهاجمت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بكل قسوة، كما كتبت بكل وضوح وصراحة عن مشاكل المثقفين في الصين في ظل النظام الماوي، وتحدثت كذلك عن جرائم الاستعمار في أفريقيا، وقضايا كثيرة، لكن قضية تحرر المرأة كانت حاضرة معها في كل الأوقات، وكانت ترى أن المرأة ما زالت تتعرض للغبن حتى في ظل الحكومات المدنية، لهذا تعد دي بوفوار من أشهر النسويات في التاريخ. وقفت موقفاً مشرفاً في ما يخص احتلال بلادها للجزائر، وساندت حق الجزائريين في الحرية والاستقلال، وهاجمت في مقالاتها الحكومة الفرنسية من رأس الهرم لأصغر موظف في الحكومة واعتبرته شريكاً في الجريمة، لأنه قبل العمل مع حكومة تضطهد وتقتل شعبا كاملا، وقالت في إحدى مقالاتها إن أي فرنسي يقبل ويشرعن الاحتلال الفرنسي للجزائر، عليه أن يقبل، من المنطلق ذاته، الاحتلال الألماني لفرنسا. في مذكراتها تتكلم عن الجزائر، وتقول إنها تتألم بسبب الحرب في الجزائر، وتتمنى لو كانت لديها عصا سحرية لتنهي هذه المأساة وتغير العالم، حتى إن قارئ مقالاتها يدرك تماماً أن دي بوفوار تعاملت مع قضية استعمار الجزائر كقضية شخصية لها، وتحملت في سبيل هذه القضية الكثير من النقد والهجوم، لاسيّما من اليمين الفرنسي المتطرف، وبالرغم من ذلك لم تتوقف، بل تشاركت هي وسارتر العديد من المقالات، فضحا فيها حقيقة ما يجري داخل أسوار الجزائر، وأعلنت بصراحة أنها تقف مع جبهة التحرير الجزائرية، وطالبت الحكومة بإعطاء الاستقلال للجزائريين. أما في ما يخص القضية الفلسطينية، فقد كانت كما كان سارتر، مع إقامة دولتين وحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم. بصورة عامة كانت تؤمن بشدة بأن حرية الإنسان لا تنفصل عن وجوده أبداً، ولا تنفصل عن كونه إنساناً أبداً، فإذا ما تعطلت هذه الحرية لأي سبب من الأسباب، فعليه أن يناضل لاسترجاعها وإلا لا قيمة لوجوده، والنضال عندها يبدأ برفع الصوت والكلمة، وصولا إلى تشكيل المقاومة المسلحة. كانت سيمون دي بوفوار نموذجاً واضحاً للكاتب الملتزم بالقضايا الإنسانية، الكاتب الذي حول قلمه وكلماته لنصرة الحق ودعم الحريات.