د. محمد ياسين صبيح*
تعدّ اللغة البوتقة التي تعطينا المجال لنحلّق في إبداعاتنا في مختلف الأجناس الأدبيَّة، فهي الوعاء الفكري وأحد مظاهر الوعي، لخلق القيم الإبداعية الفريدة للكاتب، من خلال إنشاء لغته الخاصة التي تتميز بتقنيات الجنس الأدبي الذي يكتبه، والذي يضمنها القدرات الجمالية والبلاغية والتقنيات السردية المهمة والمطلوبة، وهذا ما يميز القصة القصيرة جداً، من غيرها، لأنها حساسة جداً، للكثير من الإشكاليات، التي يجب أخذها بعين الاعتبار، فتتميز لغتها بالتكثيف والبلاغة والقيم الإيحائية والدلالية، وهذا يختلف عن لغة القصة القصيرة مثلاً، بكل مكوناتها الفنية ما عدا وجود القصة، لذلك فهي تتبع لخصوصية مميزة وحساسة إلى الكثير من العناصر والعوامل، فالمباشرة الشديدة مثلاً، تقربها من الخبر أكثر من القصة، وكذلك الإسهاب يجعلها تفقد سبب خصوصيتها، وتتحول إلى مرادف سردي للقصة القصيرة.
ومن خلال هذه القيم الجمالية والبنيوية، نجد أنَّ مجموعة القاص العراقي عبد الله الميّالي (أراني أعصِرُ حِبرًا)، والفائزة بالمرتبة الثالثة في جائزة دمشق للقصة القصيرة جداً الدورة الثالثة (2022- 2023) وبجدارة، تحقق معايير القصة القصيرة جداً الأجناسية بشكل مميز ومتقن، إذ أظهر الكاتب مقدرة إبداعية كبيرة، من خلال أسلوبه السردي المتعدد الاتجاهات والتقنيات، ومن خلال إتقانه حبك السرد دون أن يرصف أفعاله ومفرداته مجاناً، بلهو يعرف لماذا يضع كل مفردة وكل جملة، فالتكثيف بأشكاله المتعددة، كالتكثيف الدلالي والبنائي والسيكولوجي والتجريدي، يقدم للقصة إطاراً جمالياً فريداً، يتضمن إيحاءات تزيد من القدرة التأويلية للنص، وتزيد تفاعل المتلقي مع النص، وتزيد من مقدرته على الدخول إلى ذات الكاتب أكثر، فكل نوع من هذه الأنواع تقدم شكلاً من السرد، يستطيع الكاتب من خلاله أن يطلق سهم الفكرة والدلالة، بعيداً عن الترهل والإطالات، مع الحفاظ على تماسك النص وتشويقه، وكذلك على الدهشة التي يجب أن ترافق نهايته، وهذا ما وجدناه في مجموعة عبدالله الميّالي، والذي حافظ على القيمة التكثيفية للنصوص، ومن الأساليب التي يمكن أن تساعد الكاتب على إتقانه التكثيف، تقنيات مثل الحذف والإضمار، والانزياح الدلالي، والتناص وغيرها، ونستطيع القول بأنَّ أغلبية النصوص اتصفت بهذه المقدرة السردية التي نعدها من أهم التقنيات التي يجب على الكاتب إتقانها.
ومن الأساليب المهمة التي اتبعها الكاتب، أسلوب السخرية والتهكم، وهو من أصعب الأساليب التي يمكن أن يتجرأ على الخوض فيها الكاتب، وخاصة في القصة القصيرة جداً، لأنَّ وجود أي خلل يحول النص إلى فكاهة ونكتة مجانية غير ذات مدلولات عميقة، لكن الميّالي هنا أتقن هذه الميزة في بعض قصص المجموعة مثل قصة (مفاجأة، ثعلب، عزيمة، تعجيم، فقدان، تأديب، ازدواجية، درس، مساعدة وغيرها...)، واستطاع أن يجعلنا نبتسم أحياناً دون أن تفقد القصص قيمتها، بل زادت القصص جمالية ومتعة في القراءة، وخاصة أنَّ هذه القصص امتزجت بالإيحاءات العميقة وابتعدت عن المباشرة.
حتى أنَّ بعض القصص تجعلنا نبتسم ونحزن بنفس الوقت، وهذه هي من أصعب أنواع أساليب القص، فالمسألة هنا تتجسد في الصياغة الدرامية والفكاهية بنفس الوقت، هي خلطة تجعل المتلقي يبتسم ودموعه تجري وهو سعيد، مثل قصص (عزيمة، عقوبة، دموع، حرمان، صفقة، قرار، يوم الحساب، جموح وغيرها...)، هي لغة سردية متقنة، استطاعت أن تقص ولا تحكي طويلاً.
كما كان لمفارقات الحياة ومعاناتها مجال واسع من اشتغالات الكاتب السردية، فقدم لنا الحياة كما هي على منصة المعاناة، وكأنها مسرح يجري أمامنا، دون أن يتورط بالشروحات الطويلة، بل استطاع من خلال إيحاءاته وصياغاته السردية المناسبة أن يجعلنا، نتأمل معه الكثير من آلام الناس ومعاناتهم المختلفة في كل الجوانب الحياتية المختلفة، كما في قصص (الساعة الأخيرة، ذكريات، صفقة، تلصص، ندم، أمل، طبع، تنويمة، استثمار، في القلب، حصاد وغيرها...).
وما زيّن أسلوب الكاتب استخدامه للشاعرية، التي تضفي على النصوص جماليات متعددة، وتعطيها مساحة واسعة من الخيال والعمق الدلالي، والتي يمكن معها أن يستخدم الانزياحات المختلفة، التي تبني معالم الإيحاء بقوة في النصوص، كما في النصوص (عروج، هموم، عبق، تصحّر، فصول، حريق، ضيف، أحلام، صراع، لص، مصائب وغيرها...)، وكما نعلم فإنَّ زيادة جرعة الشاعرية، قد يبعد النص عن مجال التخيل القصصي، لكن الكاتب أدرك هذه المسألة، وجعل القصصية هي العمود الفقري لقصصه، واستخدم الشاعرية، لإضفاء أبعاد نصية وجمالية وتخيلية مناسبة للقصص.
وكذلك لم ينس الكاتب في نصوصه حالات الظلم والقسوة في المجتمعات ولا الحروب التي أدمت قلوب البشر والناس وخاصة الفقراء منهم، فالظلم قسوة مفروضة على الإنسان، يجب أن يقاومها بكل وسائله، والحرب قد تفرض وقد تستخدم وسيلة لأغراض ما، لذلك هي دائماً خاسرة، ويدفع ثمنها الفقراء من المجتمع، وهذا ما استطاع التعبير عنه ببراعة في العديد من قصصه مثل (زيف، غياب، مساومة، نزيف، قدر، لوعة، جحود، خسائر، مزحة وغيرها...)، كما عبر عن الألم الداخلي والخارجي وصوره كسيف يتربص بالإنسان العادي، الذي لا يملك سوى عقله ويديه وقوته في محاولته الوصول إلى حقائقه المغيبة، كما في النصوص (تكتيك، مقايضة، انتفاضة، لحظتان، اشتياق، عتاب، المتحول، وفاء، أزمات وغيرها...).
ولم يغب عن بال الكاتب استحضاره للتاريخ وإسقاط عبره على واقعنا الراهن، من خلال بعض التناصات الجميلة التي استطاع توظيفها في نصوصه دون أن تسبب لهذه النصوص أي حمولات سردية أو دلالية زائدة، بل تكاملت داخل النص لخلق كتلة قصصية مكثفة بارعة، كما في بعض النصوص مثل (جلجامش، كيدهم، الحياة، تعايش وغيرها...).
قدم لنا الكاتب عبدالله الميّالي جرعة قصصية مميزة، استطاع فيها أن يوازن بين مختلف الموضوعات الحياتية والإنسانية والاقتصادية وحتى السياسية، دون أن يشرح أو يصف أي مواقف أو حالات، بل جعلنا نعيش معه متعة القص والحكي ونستمتع بشاعرية الصياغات التي حبكت بالتشويق والتأمل، من خلال استحصال الدلالات العميقة والمهمة، كما استطاع أن يقدم لنا نصوصاً مكثفة ومليئة التقنيات القصصية التي أغنت النصوص، كما استطاعت أن تجعل المتلقي يتناغم ويتأمل النصوص بمتعة وينتظر المفاجأة في نهايتها، إنها ملحمة قصصية قصيرة جداً، استطاع الكاتب فيها أن يقدم لنا نماذج مهمة عن السرد القصير جداً، وأن يشركنا في هموم المجتمع المختلفة ويجعلنا نتأمل معه الحب والقسوة والحروب العبثية والمحقة، إنها مجموعة تستحق القراءة بتمعن ودراية.
* ناقد من سوريا