المشهد.. تأصيل الحدود والتعالقات

ثقافة 2023/12/13
...

 د. صباح التميمي


لعل الذي يمنح (المصطلح) ولادةً مبكرةً وانتشاراً واسعاً، هو فعل (التسليع) النقدي، الذي يبدأ مع طرحه أو بعده بقليل، وهذا يضمن له تحقيق قوة (شيوع) ذات مردود تداولي مهم، يجعله ينتشر في مدة زمنية قصيرة، والشيوع - كما هو راسخ في المصطلحيات - من أكثر معايير الوضع المصطلحي، قوّةً وثباتاً.

وربما يُولد أو يُنقل مصطلحٌ ما بطريقةٍ فوضوية، يُهمل معها تأصيلُه، ووضع حدوده، التي تحفظ له هُويته الخاصة، بحكم التداول المتكرّر والتقليد الذي يحوّله إلى (نمط) متاح على رفوف الاستعمال، ما يجعله يفقد بريقه الخاص، ويصبح مصطلحاً شائعاً بلا حدود صارمة، أو صورة مفهومية واضحة المعالم.
وهكذا يضيع في زحمة المصطلحات، ويكون متداولاً بوصفه (مفردةً نقديةً) متاحةً، لا مصطلحاً نقدياً له أدبيات استعمال وطقوس استحضار خاصة، ولا يخفى ما بين الحالتين من بونٍ شاسعٍ في الحدود والاستعمال.
وبظنّي أنّ مصطلح (المشهد) الذي بقي يدور في حلقات النقد الحداثي أُصيب بهذا المرض، حتى تلاشت ملامحُه الخاصة، وانتقل من مرحلة (المصطلح) - وهي مرحلة أكثر علمية -  إلى مرحلة أدنى، تحوّل فيها إلى (مفردة نقدية) جاهزةً في (قاموس النقد الحداثي) الشاسع، وهي مرحلة أكثر مجانية.
ونحن هنا – في هذه الوقفة - بصدد محاولة تأصيل تهدف إلى إعادة تصنيفه وتحقيله نقدياً، ووضعه في فضائه المناسب، وإعادة هُويّته وملامحه الغائبة.
 في التداول المعجمي التراثي تحضر مفردة (المَشْهَدُ) حاملةً دلالاتٍ متقاربةً تُشير كلُّها إلى (مكَانيَّتِها)  - وهذا ما سيميزها عن المصطلحات المجاورة كما سنرى -  فالمَشْهَدُ - بحسب اللّسان - : “ المَجْمَعُ من الناس، والمَشْهَد: مَحْضَر الناس، ومَشاهِدُ مكة: المَواطِنُ التي يجتمعون بها”…
ويبدو من هذا التأصيل اللغوي أن المفردة أصابها انحراف تداولي بعد استحضارها نقديّاً، فانتقلت من إطارها المكاني الجغرافي (موطن) إلى إطار مجازي يفترض أنها: صيغة تصنيف زمكانية يدخل في حدودها - مكانيّاً وفنيّاً وزمنيّاً - مجموعةُ أدباء، يتعالقون فيما بينهم بروابط فنية جغرافية زمنية في الآن نفسه.
فنيّاً أجناسيّاً اصطلاحيّاً، رُحِّلَ مصطلح (المشهد)  من الجنس الدرامي (وكتابة السيناريو الفيلمي فيما بعد)، إلى الخطاب النقدي، بوعي أو بلا وعي، وبممارسةِ ما أُسَمِّيه بـ(اللصق التداولي) - أي ترحيل مصطلح من حقل إلى حقل تداوليّاً على نحو ما فعلت الحداثة في بواكيرها حين لصقت مصطلحات علمية رياضية في حقل الإنسانيات - صار مصطلح (المشهد) مفردةً نقديةً مُتداولةً عبرَ ترديدها وتكرارها الرتيب في القاموس النقدي الحداثي… وقد احتفظت هذه المفردة بأهم ركيزتين تمتعت بهما في فضائها الاصطلاحي المُرحَّلَة منه – وهو الدراما على نحو أساسي (راجع في ذلك المعجم الأدبي لجبور عبد النور ص251، والمعجم المفصّل في الأدب لمحمد التونجي ج2 ص794 ) وحملتهما معها إلى المُسْتَقْبِل الجديد (الخطاب النقدي)، وهما عنصرا (الزمان والمكان)، فكل (مشهد درامي)  ينبغي أن يخضع لسؤالين جوهريين هما: سؤال الـ(أين)، وسؤال الـ(متى).
لكننا مع (المشهد) حين يدخل مناخات النقد، لا نواجه فعلاً دراميّاً ماديّاً ملموساً، بل سنكون أمام: لحظة فنية زمانية مكانية تكشف عن ملامح جيلٍ أو أجيال شعرية أو سردية، وتشفّ عن أسلوبيةِ مَن يدخلُ - فنيّاً أو مكانيّاً أو زمانيّاً - فيها على نحوٍّ عام، هكذا أرى مفهوم المشهد، بعيداً عن المجانية التي وضعته فيها معظم الممارسات النقدية، والتي اعتدنا عليها مع مصطلحات أخرى مشابهة.
ويتعالق (المشهد) مع مصطلحات (مجاورة)  له كـ(الجيل والعصر)  في نقطة تعالق مركزية هي (الوظيفة النقدية)، على الرغم من التباين الجوهري بين هذه المصطلحات، ونعني بالوظيفة النقدية هنا الدور الذي تضطلع به هذه المصطلحات لحظة استدعائها في مقاربة نقدية ما.
ويتجلّى البعد الوظائفي لهذه المصطلحات المتعالقة  في كونها (آليات تصنيف وتنميط جمعي)، تستعين بها القراءة النقدية لتَحقِيلِ خطاباتٍ إبداعيةٍ معيّنةٍ وجَدْوَلَتِها؛ قصدَ الوقوف على أسلوبيتِها العامة وهُوياتها الفنية المشتركة، وهذا ما فَعَّلَ عنصرَ جذبٍ بينها، على الرغم من تباعدها وتباينها في الجوهر العملي، فـ(الجيل) مثلا تصنيفٌ زماني في أحيانٍ كثيرة، فنّي في أحيانٍ أخرى، يتغيّر ذلك بحسب وعي القراءة النقدية التي تُمارسه، و(العصر) تصنيف تاريخي تقليدي، مارسته القراءات السياقية لتحقيلِ حقبِ الأدبِ؛ وفقاً  لمنظورٍ سياقيٍّ يُراعي سلمَ التطور التاريخي وهما معاً يختلفان عن (المشهد).
إنّ نقطة التميّز الفاصلة بين (المشهد) و(الجيل) تتمركز في طابعهما الخاص، فالأول – المشهد – مقولةٌ تصنيفيةٌ مكانيةٌ بالدرجة الأولى، فنيّةٌ بالدرجة الثانية، زمانيةٌ - وإِن على نحوٍ ثانوي- في الثالثة، بينما (الجيل) تصنيفٌ (زماني) أوّلاً، ثمّ فنّي، تختفي فيه (المكانية)، وقد تظهر ظلالٌ منها (كما في جماعة كركوك التي غلب عليها تصنيفٌ زمني أيضاً هو : الجيل الستيني)، وأما (العصر) فهو زماني تاريخي سياسي بحت، لا مكانيةَ ولا فنيّةَ فيه؛ لذا يدخل أبو الشمقمق مع بشّار وأبي نواس وأبي العتاهية - مع الاختلاف في الطبقة الفنيّة بينهما - في جدول تصنيفي واحد وهو (العصر العبّاسي)، بحسب الممارسات السياقية التاريخية الحديثة التي صنّفت الأدب العربي بعد التحوّل الذي مرّت به العقلية العربية في اللحظة الزمنية التي انتقلت بها من (العصور المتأخّرة) إلى (العصر الحديث)، على الرغم من أنّ القدماء كانوا على وعي بالتصنيف المشهدي المكاني الإقليمي (كما عند الثعالبي في يتيمة الدهر، والباخرزي في دمية القصر)، إلا أنّ (التصنيف العَصْرِي) هو الشائع في الأدبيات المدرسية الأكاديمية حتّى الآن، وهو برأيي تصنيفٌ سياقي سياسي (ما بعد جمالي)، لا ينهض على معايير نقدية راسخة، ولا يأخذ بنظر الاعتبار البنية الفنية الخاصة لنصوص التجربة المُصنَّفَة، وأثر الأحياز المكانية البيئية فيها.