سناء الوادي *
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، قالها منذ قرن ونصف من الزمن «إسرائيل زانغويل» لكنها غدت ديدن الصهاينة منذ إنشاء دولتهم المزعومة في فلسطين وشغلهم الشاغل والواضح بتعاقب رؤساء الحكومة مهما أظهروا من اليساريَّة السياسيَّة، وعلى الرغم من توقيع مناحيم بيغن اتفاقيَّة كامب ديفيد مع الرئيس أنور السادات عام 1979م والتي كانت الشرارة لاتفاقيات السلام اللاحقة ومحاولته إبراز نفسه كرجل محب للسلم، إلا أن ذلك لم يستمرَّ طويلا حتى قام بقصف المفاعل النووي العراقي في العام 1981م واحتل جنوب لبنان في العام التالي، لترسخ هذه الأفعال ليس فقط أطماعهم بدولة فلسطين فحسب بل تعدت ذلك إلى التوسع شمالا وشرقاً وجنوباً متى ما تهيّأت الفرصة المناسبة لإقامة دولتهم الكبرى من البحر إلى النهر.
ما أشبه اليوم بالأمس، فالفكر الصهيوني الاستيطاني يواصلُ السيرَ على ذات النهج بشراسة أكبر ووحشيَّة ودمويَّة، فقد تداولت وسائل الإعلام اليومين الماضيين مبادرة طرحها الصهاينة للسلام مع حزب الله فلا يَقصفُ ولا يُقصف شريطة تراجع قواته إلى شمال نهر الليطاني، ناهيك عن أنَّ القصف المدمر على قطاع غزة المستمر حتى الآن لاحت منذ اللحظة الأولى غاياته في التهجير القسري لشعب القطاع من الشمال إلى الجنوب بالقتل والترهيب وتدمير جميع البنى التحتيَّة، ما يؤدي لاستحالة الحياة هناك، هذا ما جعل مئات الآلاف من الغزاويين يتجهون إلى منطقة المواصي الصحراويَّة وبناء الخيام هناك، بيدَ أنَّه مع تحرك بوصلة القصف الإسرائيليَّة نحو جنوب القطاع أملاً بتحقيق أهدافها المعلنة من العمليَّة والتي لم تنجزها في الشمال وأهمها القضاء على حركة حماس وتصفية قادتها وعلى رأسهم «يحيى السنوار» ونائباه ومن ثمَّ تحرير الأسرى والرهائن.
هذا وما أنْ يبدأ القصف الوحشي في الجنوب ما هو الخيار الآمن المتبقي أمام مليون وثمانمئة غزاوي من المهجرين الذين لجأوا إلى الأماكن الصحراويَّة وإلى رفح على الحدود المصريَّة للذهاب إليه، هناك العديد من السيناريوهات التي طرحت على طاولة الكونغرس الأميركي بتهجير الفلسطينيين إلى الدول العربيَّة المجاورة على أنْ يكونَ لمصر النصيب الأكبر منه مقابل معونة ماليَّة أميركيَّة، وعلى النقيض من ذلك فقد كانت بعض الاقتراحات تتحدث عن ذهاب الثلثين منهم لسيناء والثلث المتبقي يُقسم بين اليمن وتركيا، كل تلك السيناريوهات مُرحبٌ بها من الجانب الإسرائيلي كونها تصبُّ في المطمح الأبدي لهم في تهجير الشعب وتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة.
ولكنْ في هذا السياق لو غصتُ أعمق في النوايا الأميركيَّة من وراء طرح هكذا سيناريوهات قد تشعل حرباً إقليميَّة في المنطقة العربيَّة وتضرب باتفاقيات
السلام الموقعة مع مصر والأردن عرض الحائط، فهل يصبُّ في مصلحة واشنطن ما يفعله الحوثيون في باب المندب من الاستيلاء على السفن وتهديد الملاحة في قناة السويس مع العلم أنَّ 15 % من تجارة العالم تمرّ عبره، مما لا شك فيه أنَّ تمزيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط يخدم المصلحة
الأميركيَّة التي يتمُّ تقليصها مؤخراً على حساب التوسع التجاري والعسكري والسياسي المتفاقم مع روسيا والصين ويعيد المنطقة إلى سابق عهدها من الحروب والنزاع، فمن المعروف أنَّ الولايات المتحدة الأميركيَّة
تتسيّد العالم بإشعال الفتن والاضطرابات، ناهيك عن أنَّ الطموح اليميني المتطرف عند الكيان المحتل بتهجير الغزاويين إلى سيناء والذي يعني لهم بطريقة أو بأخرى الوصول لقناة السويس الاستراتيجيَّة، وهو بالتأكيد ما لم يسمح به الجانب المصري لأنَّه وبغض النظر عن كون ذلك يصبُّ في تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة وتقليص الأراضي المملوكة لهم والتوسع في المستوطنات فإنَّ ذلك يضرُّ بالأمن القومي لتلك الدول كما حدث في الأردن من قبل عندما تمَّ طرد منظمة التحرير الفلسطينيَّة إلى الأردن والتي انتهت بحربٍ أهليَّة كان من نتيجتها أيلول الأسود في العام 1970م.
هذا وقد ازداد الضغط من الجانب اللبناني المقاوم في الآونة الأخيرة ناهيك عن قصف القواعد الأميركيَّة في سوريا والعراق وما تهدد به حكومة صنعاء من إغلاق باب المندب أمام حركة التجارة العالميَّة علَّ ذلك يسهم في كبح الجماح الإسرائيلي المدعوم من البيت الأبيض ويوقف سيناريو التهجير التي لا تألُ جهداً في تنفيذه، وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى الموقف الشعبي الغربي الذي ارتفع صوته كثيراً بضرورة وقف قتل المدنيين والعزّل الفلسطينيين بيدَ أنَّه يقتصر على وجهة النظر الإنسانيَّة فقط ولم يتعدّ ذلك إلى الاعتراف بحق هؤلاء المدنيين بإقامة دولتهم المستقلة وحقهم في الأمن والاستقرار ووقف آلة القتل الممارسة عليهم لثمانية عقودٍ مضت، هذا ولم يلتفت إلا القلَّة لمدى الترويع الذي ينشره الاحتلال بتلويحه بتركيب خمس مضخات ضخمة تضخ آلاف الليترات من مياه البحر لإغراق أنفاق حماس.
كل ما يجري حتى هذه اللحظة من استمرار القصف والدعم الأميركي له وأعداد الشهداء الهائل والأوضاع الإنسانيَّة البائسة في قطاع غزة مع دخول الشتاء وسياسة عدم الامتثال الإسرائيليَّة لجميع الضغوط العالميَّة والأمميَّة ينبئ باقتراب الوصول لمبتغاها بتهجير أهل قطاع غزة ونقل المقاومة من الداخل إلى الخارج، هذا ما يتطلب المزيد من التحرك العربي الضاغط لإفشال هذا السيناريو بكل الوسائل الدبلوماسيَّة والتي يخشى أنْ تحالَ إلى عسكريَّة.
* كاتبة سوريَّة