نعوم تشومسكي: أدمغتنا هي الأجهزة
كاميرون شاكل
ترجمة: عبود الجابري
نعوم تشومسكي، العبقري الموقر الذي وصف ذات يوم بأنه «المثقف الأكثر أهمية على قيد الحياة»، يبلغ اليوم من العمر 95 عاما. وهو شخصيَّة ضخمة في علم اللغة الحديث، مثلما هو كذلك في علم النفس والفلسفة والنشاط السياسي.يعد عمله في تأسيس العلوم المعرفية، نظاماً أساسياً في ظهور وتطوير الذكاء الاصطناعي رغم أن أحداً لم يعد يذكر هذه الأمور عند الحديث عن تشومسكي أو عن الذكاء الاصطناعي. وفي خضمِّ التحذير المستمرِّ من أن آلات محاكاة اللغة يمكن أن تصبح سلبية تماما بالنسبة للبشرية، هل ابتعدْنا كثيرا عن رؤية تشومسكي لعلمِ العقل البشري؟
أصل شهرة تشومسكي
ظهر تشومسكي على الساحة الأكاديمية في عام 1957 مع البنى النحوية، وهي دراسة لغويّة عالية التقنية أحدثت ثورة في دراسة اللغة.
لكنَّ نجوميته الحقيقية جاءت في عام 1959 مع مراجعته الأسطورية للسلوك اللفظي لـ “بي إف سكينر”. كان “سكينر”، عالم النفس والسلوكيّ، يستمتع بالأضواء في دوائر علم النفس بنظريته حول “التكييف الفعال».
ويشرح كيف يمكن استخدام التعزيز والعقاب لإنشاء ارتباطات في أذهان الناس، والتي تشجِّع بعد ذلك سلوكيّاتٍ معينة. على سبيل المثال، فإن النجمة الذهبية التي يمنحها المعلّمُ مكافأة للسلوك الجيد ستشجع الطلاب على الالتزام بهذا السلوك.
في السلوك اللفظي، حاول سكينر توسيع هذه الفكرة لتشمل اللغويات عن طريق تقسيم اللغة إلى مكونات يُفترض أنها تُكتسب عن طريقِ “الإشراط الاستثابي”، ويعني به عمليَّة تَعْدِيْل أو تكييف السلوك من خلال دعمه وتقويته في حالات معينة، واضعافه في أخرى بواسطة التعزيز الإيجابي أو السلبي في كل مرة يَظهر فيها هذا السلوك كاستجابة لتنبيه ما، حتى أنَّ الشخص يصبح قادراً على ربطِ سلوكه بمستوى الرضى الذي ينجمُ عنه، وبالتالي يمكنُه تحديد طبيعة سلوكه عند التعرض لتنبيه مماثل.
اختلف تشومسكي مع هذه الفكرة تماماً، وقامَ بتحطيم نظريات «سكينر»، موضحًا أنه لا يمكن فهم اللغة بهذه الطريقة.
وأشار إلى أنَّ أحد الأسباب هو أن الأطفال لا يحصلون على ما يكفي من التعرّض للّغة لتعلُّم كلِّ جملةٍ ممكنة. ومن ناحية أخرى، تعتبر اللغة إبداعًا: فنحن كثيرًا ما ننطقُ جُملاً لم نسمعها من قبل، مما يعني أنَّه لا يمكن اكتسابها من خلال عملية بسيطة من المكافأة والعقاب.
لقد فعلت مراجعة تشومسكي اللاذعة أكثرَ من مجرَّد إبعاد السلوكيةِ عن اللسانيّات.
لقد أظهرَ مدى فائدةِ فحص العقل بدلاً من السلوك فقط في المجالات المتعلِّقة باللغةِ مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الأعصاب. وقد ساعد هذا في إطلاق الثورة المعرفية، مما أدّى في النهاية إلى ظهور مجالِ العلوم المعرفية.
الفكرةُ الأساسية التي ابتكرَها تشومسكي، بالتعاون مع علماءَ معرفيين آخرين، هي أنَّ الإدراكَ البشريَّ (التفكير والذاكرة والتعلم واللغة والإدراك واتخاذ القرار) يمكن فهمُه من حيثُ العمليات الحسابيّة. في حين كانتْ هناك بالفعل نظرياتٌ مختلفة لشرحِ جوانب مختلفةٍ من الإدراك، لم تقدِّمْ أيٌّ منها الإطار المغري لاستعارة الكمبيوتر: أدمغتنا هي الأجهزة، والإدراك هو البرنامج، وأفكارنا ومشاعرنا هي المخرجات.
إنَّ نهج تشومسكي هو الخيطُ الذي يربط بين أجيالٍ من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي، ويمكن القول إنه بدأ بزميله في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ورائد الذكاء الاصطناعي مارفن مينسكي - أحد منظمي ورشة عمل دارتموث البحثية عام 1956 التي أطلقت أبحاث الذكاء الاصطناعي.
في تلك الأيام الأولى للذكاء الاصطناعي، مهَّدت نظرياتُ تشومسكي حول اللغة الطريقَ لتوسيع الأفكار حول الذكاء الآليِّ في معالجة اللغة. على وجهِ التحديد، هناك مفهومان رئيسيّان روَّجَ لهما تشومسكي لا يزالان جزءاً لا يتجزَّأ من الذكاء الاصطناعي اليوم. الأوَّل هو “النحوُ التوليدي”. ويتضمَّن فكرة أنَّ هناك مجموعةً محددةً من القواعد التي تحدّدُ ما الذي يجعل الجملةَ صحيحةً نحويًّا (أو غير صحيحة) في أيّةِ لغةٍ يقع عليها الاختيار.
الفكرةُ الثانية هي فكرةُ “البنية العميقة”. حيث قال تشومسكي إنَّ اللغويين يولونَ اهتمامًا كبيرًا للقواعد التقليدية، أو “البنية السطحيَّة”، للغاتٍ معينة. ويشير هذا إلى المكوّناتِ المختلفة (مثل الكلمات والمقاطع والعبارات) التي تشكّلُ الجملةَ المنطوقة.
وبدلاً من ذلك، أراد تشومسكي أن يتوصَّلَ إلى “البنية العميقة” لكلِّ اللغات، والتي لم نتمكّنْ نحنُ من إدراكها إلى حدٍّ كبير. هذه البنيةُ العميقةُ هي التي تحدِّدُ المكوِّنَ الدلاليَّ للجملة، أيْ معناها الأساسي.
ليس من الصعب أن نرى كيف يفعل تشومسكي ذلك من خلال توافقِ أفكارِه حولَ القواعد التوليدية والبنية العميقة مع الذكاء الاصطناعي التوليديِّ والتعلُّمِ العميق.
لقد وضعَ تشومسكي التحدِّي الأساسيَّ لهذا الجهد برمَّتِه: فهو الذي وضعَ القواعد العميقة التي تولِّدُ اللّغةَ، وبدون ذلك، لم يكنْ بإمكان الخبراء التعمّقُ في الشبكات العصبية، ولم يكن إدراكهم للغة كافياً ليفكّروا بالخطوة الأولى في هذا الجانب.
بعد مرور ستين عامًا، لحقت نماذج مثل ChatGPT بتشومسكي. في حين يعتقدُ بعضُ اللغويين أن نجاحَ نماذج اللغة الكبيرة) يُبطلُ منهج تشومسكي في اللّغة، فهم يرون أنَّ النماذجَ ببساطة تقلِّدُ ولا تبتكر. وبحسب تشومسكي فإنَّ معرفةَ القواعد العميقة للّغة التي تتضمَّنها هي فوضى إحصائية وليست تحليلاً ذا معنى.
في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “الوعد الكاذب لـ” ChatGPT، يقول تشومسكي إنَّه أمرٌ “كوميديٌّ ومأساويّ” أن “يتعين تركيز الكثير من المال والاهتمام على شيءٍ صغير جدًا».
شكواه الرئيسية هي أنَّ مثلَ هذه الأنظمة تمثِّلُ طريقًا مسدودًا في البحث عن الذكاء العام الاصطناعي الحقيقي (AGI) ، وبدلاً من ذلك، فهو ينظر إليها باعتبارها عمليةَ إكمالٍ تلقائي معززة ــ مفيدة لإنشاء كود كمبيوتر أو الغشِّ في المقالات، ولكن ليس أكثر من ذلك.
وهو يشعر بالقلقِ من أن شعبيَّتها ستؤخر استكشاف بنياتِ الذكاءِ الاصطناعي الأخرى التي لا تعتمدُ على التحليلِ الإحصائي العنيف للبيانات. قبلَ كل شيء، فهو لا يعتقد أن الشبكات العصبية (أساس الكثير من الذكاء الاصطناعي اليوم) هي البنيةُ الصحيحة لتكرار الذكاءِ البشري.
على الرغم من عدم إعجابه بـ ChatGPT، يرى تشومسكي إمكانيةَ أن يلعبَ الذكاء الاصطناعي دورَ الوحش في مستقبلٍ قاتم، مشيراً في المقال، أنَّ ردود ChatGPT يمكنُ أن تعكسَ “تفاهةَ الشر: الانتحال واللامبالاة والتغاضي».
ومع ذلك، فهو يعتبر الذكاء الاصطناعي مصدر قلق ثانويّ مقارنة بتغيّرِ المناخ. هناك فرقٌ مهم بين عملِ تشومسكي الأخلاقيِّ والمتفائل في العلوم المعرفية وما يجري حاليا في صناعة الذكاء الاصطناعي.
التقدّم في تنميطِ الإدراك لم يعد يحدث بشكل رئيسي في الجامعات. وبدلاً من ذلك، تقوم شركات ضخمة مثل جوجل ومايكروسوفت وOpenAI بتكديس الموارد.
يلجأ بعض الباحثين الآن إلى نماذج الذكاء الاصطناعي للحصول على أدلَّةٍ حول التفكيرِ البشري و هدفهم من وراء ذلك هو كسب المال. وبمرور الوقت، سوف تنتشر أنماط التحفيز والاستجابة الناجحة، وسوف يتسبب شيوع هذه المعرفة في إدمان وتأثير غير محسوسين ــ مما يعزز استخدامنا لها وربما يغير سلوكياتنا، وقد ناضل تشومسكي جاهداً لإبعاد السلوكيَّة عن اللسانيّات وساهم بشكل كبير في فهمنا لكيفية ربط اللغة بالعمليّات في العقل. ومن المفارقات أنَّ هذه المساهمات دفعتنا إلى الساحةِ المثاليّة للتجاربِ السلوكيَّة التي يسهِّلُها الذكاءُ الاصطناعي.
***
كاميرون شاكل Cameron Shackell
باحث وأكاديمي ، جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا
-المصدر:
The Conversation Magazine