يوم تعرفت على {ابن المقفع}

الصفحة الاخيرة 2023/12/13
...

زيد الحلي

ليس عيباً أنْ أعترفَ بأنَّني لم أطلعَ يوماً على آثار وكتابات "عبد الله ابن المقفع" الكاتبُ الشهير في العصر العباسي، رغم أنَّ اسمه كان يتلألأ في ذاكرتي، من خلال مسموعاتي، وما أقرأ من إشارات يوردها أدباء وجمهرة من الباحثين، وظلت الحال هكذا، رغم أنَّ الرغبة كانت شديدة في الاطلاع على هذه الشخصيَّة وآثارها الأدبيَّة، لكنَّني لم أوفق في دراستها، لفقدان ما أردتُ معرفته من مكتبات المتنبي في سنوات ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، الى جانب مشاغل الحياة.
وحملت معي هذه الرغبة الى الشام الحبيبة التي أقمت فيها ثلاث سنوات (2006 - 2009) وهناك بدأ بحثي عن "ابن المقفع" فوجدتُ ضالتي في دمشق، وتحديداً في مكتبات "الحلبوني". فأهلا بأبي المقفع.
اقتنيت مؤلفه الشهير "الأدب الكبير" والآخر "الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" وكتاب "اليتيمة"، ولم أحظ بمؤلفاتٍ أخرى، وقد عددها المؤرخ جورجي زيدان بخمسة عشر مؤلفاً، وابن المقفع الذي عاش في صباه في البصرة، لم يعش طويلاً، إذ قتل بعمر 36 سنة، وقد اختلفت الروايات في طريقة قتله، فقيل إنّه أُلقي في بئر وردم بالحجارة، وقيل إنّه أُدخل حماماً وأغلق عليه فاختنق، وقيل قد قُطّعت أطرافه وأُلقي به في التنور.
لقد لفت انتباهي في المؤلفات التي اقتنيتها أسلوبه المبهر، وسعة رؤاه الفكريَّة، فامتاز باللفظ المنتقى، وانسجام الكلمات، وقصر الجمل، وبالإيجاز الملفت للنظر، لم يتكلف الصناعة اللفظيَّة، أما مخارج كلماته وانسجام ما بينها، فلها جرسٌ عذبٌ، وخيالٌ جامحٌ وجامع. وطابعه العام في الكتابة الجد والحكمة. وهذا الأسلوب أتمنى على زملائنا أنْ يحذوا حذوه، فهو الأبهى، ويحمل لذة للقارئ.
كتاباه "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" مكنوزان بالفائدة والعظة، ولا أجد مساحة لعرض ما فيهما لضيق حجم العمود، ويمكن أنْ أعود لهما في قراءة مستفيضة لاحقاً.
باختصارٍ شديدٍ أقول إنَّ أسلوب "ابن المقفع" سحرني، فينبوعه الفكرة وليس الخيال، ابن المقفع مدرسة اجتمع فيها العلم الواسع، والعقل الراجح، والذكاء الحاد، والطبع الفيَّاض، واللغة النقيَّة والأسلوب السلس، لقد كان من أكثر الأدباء في عصره بلاغة وعلماً.