أحمد أبو ماجن
لقد لعب مصطلح الماورائيَّة التراتبيَّة دوراً مهمَّاً في التطور العقلي البشري على الرغم من سيادته في فترة طفولة الشعوب والمرحلة السحريَّة السابقة لولادة الديانات الوضعيَّة.
فهذا المصطلح اليوناني (meta) الذي يعني في حرفيته اللغويَّة (ما بعد) أو (ما وراء) ما هو إلا مشترح من تراتبيَّة الحدث نظراً للاستجابة المنطقيَّة لمفهوم التعدد/ التطور.
وقيل إنَّ أرسطو بعد أنْ فرغَ من كتاب «الطبيعة» ووضعه على الرفِّ، شرع في كتاب «الغيبيات» وحين أكمله لم يجد له مكاناً سوى أنْ يضعه وراء كتاب الطبيعة، وقتئذ لم يكن قد عنونه بتسمية معينة فأصبح يطلق عليه ما وراء الطبيعة، أي الكتاب الذي خلف كتاب الطبيعة.
والسرديَّة هذه إنْ لم تكن حقيقة فإنَّها قد حملت في مضمونها التراتبيَّة المعنويَّة للموجودات وما خلفها من إبهامٍ غيبي ينطوي على شيفرات لا يمكن التوصل إلى حقيقتها لفهم طبيعة الموجود وإنْ تعددت الآراء والتفسيرات، سواء في الفلسفة أو الدين أو العلم، ولعلَّ الما وراء حجة مثاليَّة تفسر السرديات الماضية وما انطوت عليه من مضامين مؤثرة.
وأعني ذلك السرديات الكبرى التي أسست لمفهوم الدين واللاهوت كونه يعطي معنىً ذا بُعدٍ واسعٍ لا يمكن تحديده ضمن الفضاء المحدود أو الزمكان، أي إنَّه خارجٌ تماماً عن الإدراك والتصور البشري، وعليه كان الحكم على الحقيقة بمفهومها العام على أنَّها نسبيَّة إذا ما قُورنت بما ورائها، ويمكن تصور نسبة الحقيقة على أنها غَرفةٌ من بحر الما وراء، فالأمر لا يخرج عن كونه دوامةً ديالكتيَّة تلاطمت فيها الآراء وتستمر الحكاية.
وتتحدث آية ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ عن أول انفلاقٍ تراتبيٍ بعد الله/ الملائكة، فما عاد مفهوم العبادة مخصصاً في البُعد الغيبي/ الملائكي، بل تعدى الأمر لإشراك مخلوقٍ طيني جديدٍ على الساحة العباديَّة ومن ذلك يظهر الرفض الشيطاني/ القبول الملائكي، فلم تشهد الساحة الإلهيَّة توتراً وعصياناً حتى ظهور آدم على خشبة مسرح الوجود.
أما العدد (two) اثنان، فقد شكّل دوراً خفياً في العلاقات الإنسانيَّة وكأنَّه ممرٌ للتطور والاختلاف، على الرغم من سيادة الثنائيات المتشابهة أو الضديَّة، رجل/ رجل، امرأة/ امرأة، رجل/ امرأة، بالنظر لمفهوم الجنسانيَّة ومنه ينطلق ليشمل الموجودات كلها الماديَّة والمعنويَّة، فالكندي في فلسفتهِ يرى: (أنَّه من الممكن أنْ يكون العدد اثنان قلّة مطلقة كأول مجموعة، ومن ثم فهو أول عدد، لأنه رأى أنه من الممكن أنْ يتمَّ تحديد التفرد عبر الواحدة التي يتمُّ احتسابها بالواحد.
كما اعتقد أنَّ الوحدة غير قابلة للتجزئة مثلها مثل أي واحدة قياس، والعدد واحد لا يمكن تقسيمه كبقيَّة الأعداد) ومن ثم الاثنان هو بداية التعدد طالما هو يقبل القسمة، والاثنان يحمل طابع الازدواج وعليه يكون المُمهِد الفعلي لبداية الخلق كما ترى الفلسفة الدينيَّة على الرغم من إهمالهِ عند عدَّ الأرقام المقدسة كالواحد، الثلاثة، السبعة......، أي إنَّه يمثل المركز الأصيل قبل تعدد المركزيات، ومن ثم تلاشيها، ونرى ذلك في السرديَّة الدينيَّة لآدم، إذ شكّل خلقهُ محوراً أصيلاً ثابتاً في مفهوم الطاعة في بدء الأمر، الله/ آدم، لكنَّ الأمر أصبح أكثر تراجيديا بعد خلق حواء وانكسار مفهوم الطاعة بالخطيئة، كذلك مركزيَّة الله/ موسى، وخلخلة الطاعة بعد دخول مركزيَّة بني إسرائيل وتعدد النبوات، فضلاً عن مركزيَّة الله/ اليسوع، ودخول مفهوم الثالوث المقدس، وفي السرديَّة الإسلاميَّة شائعٌ هذا الأمر نتيجة مركزيَّة الله/ محمد، ودخول مفهوم الخلافة والصراع السياسي، كذلك القران/ السنة، القرآن/ العترة، ودخول الحديث والفقه وتحديد المسارات الشرعيَّة وفق الرؤية الذاتيَّة وتأثيرات السلطة، والكثير من الأمثلة التي تستشف مثاليَّة الثنائيات وخلخلتها بما بعدها، ما ورائها، التراتبيَّة المستحدثة، صراع وجهات النظر.
أما في الواقع فنجد المثال حيّاً في طبيعة المجتمعات السالفة المتأتية من ثنائيَّة السادة/ العبيد، ولم تكن لتنتهي لولا ظهور الطبقة الوسطى التي غيرت المفهوم الطبقي للشعوب.
كذلك في العلاقات الاجتماعيَّة، علاقة الزوج/ الزوجة، فأي عامل خارجي يشكّل تهديداً مباشراً لهدم هذه العلاقة، كذلك السرُّ بين اثنين، ودخول ثالث يعني أنَّ السرَّ سيُفضح، ونجد ذلك في (كل اثنين ثالثهم الله/ الشيطان) بحسب التصور الشعبي لمفهوم الحب والعلاقات غير الشرعيَّة، ويتجلى ذلك في الغناء الشعبي حين يكون الحبيب/ الحبيبة ثنائيَّة قويَّة مُنتجة إلى أنْ يدخل الواشي أو العارض، أما في مفهوم النقد فالأصل المبدع/ النص، أصلاً في عمليَّة الإبداع الإنساني فدخل المتلقي الذي بدوره كان سبباً في خلق المناهج النقديَّة المتعدد ومن ثم توسع الأمر في خطاطة جاكبسون، فضلاً عن ذلك إنَّ العالم يعرف أنَّ الأدب ينطوي على الشعر/ النثر، تلك الثنائيَّة التي عجّ بها التأريخ السردي وهو يستعرض ثقافات الشعوب الروحيَّة، فالشعر العربي على سبيل المثال عمودي في المقام الأول، ولعبت الحداثة في فتقهِ وخلق شعر التفعيلة، فأصبحت الثقافة الأدبيَّة ذات مركزيَّة عمود/ تفعيلة، وبعد هذه الثنائيَّة ظهرت قصيدة النثر وقصيدة الشعر والومضة والشذريَّة وغيرها من الأجناس الشعريَّة التي بدورها هدّمت مفهوم الشعر الذي عُدَّ الأساس في الثقافة العربيَّة، فضلاً عن التداخل الإجناسي بين الشعر والنثر واختلاط المفاهيم في النتاجات الأدبيَّة عالمياً وليس عربياً فحسب.
وعليه فـ (الميتاتو) أي (ما بعد الاثنين) مصطلحٌ مشترحٌ من مركزيَّة الازدواجيَّة المنتِجة وما بعدها من ديالكتيك لا منتهٍ لا يعود بالمنفعة على الأصل بقدر ما يسهُم في تفتيت المتعارف عليه وجعلهِ متعدداً، وبذلك تتوسع دائرة تضارب الآراء وإضفاء المسحة التفاعليَّة التي بدورها تخلق مركزيات جديدة تُهدَّم لاحقاً بغيرها، دواليك.. تماماً كارتطام زجاجتين كبيرتين ينتج عنهُ شظايا متعددة الأحجام، وهذه حالة طبيعيَّة للتطور والتجدد الحيوي الإنساني في تغيير المفاهيم نظراً لتغير المتطلبات التي تفرضها الحياة الجديدة في كل مرحلة ضمن الفهم الإنساني
للوجود.