حرب التجويع في غزّة

قضايا عربية ودولية 2023/12/13
...

• دانيال لاريسون
•  ترجمة: أنيس الصفار                                            

أوجد قطع الغذاء والماء والوقود المفروض على غزّة ظروفاً شديدة القسوة بالنسبة للفلسطينيين هناك خلال الشهرين الأخيرين فقط، وعما قريب ربما سيقعون تحت طائلة مجاعة تصل بهم إلى حدِّ الموت.
النزر اليسير من المساعدات الذي أمكن إدخاله بضغط دولي لا يكاد يكفي لإبقاء المدنيين على قيد الحياة، وتفيد تقارير برنامج الغذاء العالمي بأنَّ ما يدخل قطاع غزّة لا يتعدى نسبة 10 % من الغذاء المطلوب وأنَّ الناس معرّضون الآن لاحتمالات الموت الداهم بتأثير المجاعة. كذلك يحذر برنامج الغذاء العالمي من أنَّ البنية التحتية للغذاء في غزة لم تعد تعمل، والقليل المتبقي من الطعام المتاح يباع بأسعار مرتفعة للغاية ومعظمه لا يمكن الاستفادة منه لأنَّ الناس لا يملكون الوسائل لطبخه.
في غزة هناك كارثة إنسانية تتكشف صفحاتها أمام أعيننا، فالناس هناك لا يتضورون فقط بل يُفرض عليهم الجوع فرضاً، وذلك يحدث بتأييد ودعم من جانب الحكومة الأميركية.
تقول منظمة "هيومان رايتس ووتش" وفقهاء القانون إنَّ إسرائيل ترتكب جرائم حرب بشنها حرب تجويع ضد مدنيي غزّة. وعلى قدر استمرار واشنطن بمساعدة الحملة العسكرية الإسرائيلية والحصار الذي تفرضه فإنها تساعد إسرائيل وتمكنها من ذلك.
المقادير الضئيلة من المساعدات الإنسانية التي تتباهى إدارة بايدن بأنها يسّرت وصولها ليست أكثر من قطرة في دلو من احتياجات السكان، وإذا ما استمر الأمر بمثل معدلاته الحالية فلن يعود بالوسع الحدّ من خطر وقوع خسائر واسعة النطاق في أرواح الأبرياء. الحاجة إلى وقف إطلاق النار وجهود الإغاثة العاجلة أمور لا يمكن إنكارها ومعارضة واشنطن لها تمثل حكماً محتملاً بالإعدام على آلاف الفلسطينيين.
في كثير من الصراعات خلال العقد الأخير استخدم التجويع كسلاح بتكرار يثير القلق، من سوريا واليمن إلى تغراي وجنوب السودان، وكانت الحكومات تلجأ عادة إلى الحرب الاقتصادية أو الحصار المادي الفعلي لتحقيق هذه الغايات. أما حصار غزّة الحالي فقد شمل الاثنتين معاً من خلال قطع اقتصاد غزّة قطعاً فعلياً ومنع الإمدادات الخارجية من الوصول.
المجاعة المفروضة قسراً على السكان المدنيين هي شكل من أشكال العقاب الجماعي، وإسرائيل ملزمة وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة بضمان توفير الإمدادات الغذائية والطبية للسكان. من الواضح أنَّ الحكومة الإسرائيلية لم تفِ بهذا الالتزام، بل إنها كانت تفعل العكس من ذلك.
ليس مستغرباً ألا يكون لدى الرئيس بايدن شيء جدي يقوله بشأن ذلك كله في مقالته الأخيرة التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست". فقد أقر الرئيس بأنَّ العديد من الفلسطينيين الأبرياء قد قتلوا في الحرب، ولكنه لم يقل شيئاً بحقِّ المسؤولين عن قتلهم. وشدَّد بايدن على وجوب ألا يكون هناك عزل أو حصار، بينما الاثنان مفروضان على غزة.
كذلك لم يشر إلى أيِّ عواقب أو تبعات ستصيب الحكومة الإسرائيلية إذا ما تجاهلت سلسلة الأمور التي أدرجها في خطاباته وقال إنَّ من الواجب عدم حدوثها. ربما تكون إدارة بايدن قد دعت إلى احترام القانون الإنساني الدولي، ولكنها لا تفعل شيئاً لإقرار هذا القانون كما أنها لا تُخضع منتهكيه للمحاسبة.
لقد رفض الرئيس الأميركي خيار وقف إطلاق النار مرة أخرى متذرعاً بالقول: "ما دامت حماس متمسكة بإيديولوجية التدمير، فلن يكون وقف إطلاق النار سلاماً." لكنَّ هذا الموقف لا يأخذ التبعات المدمرة التي سيسمح بها استمرار الحرب على جميع الأطراف مأخذاً جدياً. لا أحد طبعاً يتخيل أنَّ وقف إطلاق النار سيضع حلاً للصراع أو يوجد ظروفاً فورية ملائمة لتسوية دائمة، ولكنه رغم هذا ضرورة أساسية لحفظ أرواح وسلامة ملايين البشر الذين يواجهون خطر الموت جوعاً أو مرضاً أو نتيجة للصراع.
توضح عالمة السياسة "ساره باركنسون" الموقف في مقالة نشرتها مجلة "فورن أفيرز" فتقول: "وقف إطلاق النار هو السياسة الوحيدة المعقولة سياسياً والمعززة للأمن والتي يمكن الدفاع عنها أخلاقياً، خصوصاً إذا كانت واشنطن تأمل أن تبقى لاعباً له احترامه في الشرق الأوسط." أما معارضة وقف إطلاق النار في هذه الحرب فإنه خطأ جسيم ستراتيجياً وأخلاقياً وسوف يكلف الولايات المتحدة ثمناً غالياً لأشهر وسنوات آتية.
يشدّد بايدن على أنَّ الولايات المتحدة إنما تساعد إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولكن الدفاع عن النفس لا يعطي الدولة الحق بأن تفعل كل ما تريده بلا حدود أو قيود.
في وقت سابق من هذا الشهر كتب عادل أحمد حقو مقالة مؤثرة في مجلة "جاست سيكيورتي" ناقش من خلالها حق الدفاع عن النفس من منظور النسبة والتناسب قال فيها: "حتى الهدف المشروع يجب أن يُنحّى جانباً وفقاً لقانون الدفاع عن النفس إذا ما ثقلت كفّة الأضرار التي ستسببها القوة المطلوبة لتحقيقه. بناء على هذا فإننا حتى لو ادخلنا في الحساب حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها فإنَّ ممارستها الحالية لذلك الحق ليست متناسبة".
لو كانت هذه الحرب قد وقعت في أي مكان آخر من العالم، ولو لم يكن الطرف المشارك فيها دولة مرتبطة بالولايات المتحدة، لوجدنا الحكومة الأميركية على الأرجح تصر على ضرورة وقف إطلاق النار، ولوجدنا المسؤولين الأميركيين يعيدون ويكررون أنَّ ما من حل عسكري ناجع لتلك الحرب. واشنطن لا ترى في التقيد بالقانون الدولي حسنة ترجى إلا عندما تكون هي ضالعة في القتال أو إحدى الحكومات التي تدعمها الولايات المتحدة. يبدو من هذا لسوء الحظ وكأنَّ الولايات المتحدة أقل اهتماماً بوقف الحروب التي لا يكون لها نفوذ ملحوظ فيها، بينما تكون الأعلى صوتاً في المطالبة بوقف إطلاق النار في الحروب التي يكون نفوذها فيها ضئيلاً أو معدوماً.
إذا ما واجه ملايين الناس تهديداً مباشراً بالمجاعة في صراع من الصراعات فإنَّ الولايات المتحدة سوف تدعو الأطراف المتحاربة لتنحية السلاح وبذل كل ما بالإمكان لتسهيل وصول المساعدات المنقذة للحياة، وهذا هو عين ما ينبغي للحكومة الأميركية فعله الآن في هذه الحرب. فتوقف القتال لفترة وجيزة لن يكفي لضمان إيصال المساعدات بشكل آمن وثابت.
التصرف دفاعاً عن النفس لا يعفي أي حكومة من التزاماتها بموجب القانون الدولي، والدفاع عن النفس لا يعني استغلال أيِّ ذريعة أو سبب لانتهاك القانون، وبعض الأهداف السياسية والعسكرية لا يمكن تحقيقها بثمن مقبول. الآثار الضارة التي نجمت عن شنِّ هذه الحرب أعظم بكثير منذ الآن من أن تبرر استمرارها، وهذه الآثار لن تزداد إلا سوءاً كلما سمح لهذه الحرب بأن تطول أكثر.

• عن مجلة "رسبونسبل ستيتكرافت"