استبداد الحداثة.. إعادة تعريف {إسرائيل}

آراء 2023/12/17
...

جمعة عبد الله مطلك

في الحروب {الصغيرة منها والكبيرة} وعندما يتوقف هدير المدافع يبدأ فكر التسوية تصاحبه درجة معقولة من الواقعيَّة والبرغماتيَّة السياسيَّة. ذلك الحال الذي لم يوفق اليه العرب والفلسطينيون في حالهم مع {اسرائيل}  أولا لأن المدافع لم تتوقف وثانياً لأن الغلبة في سباق المدافع كان {لاسرائيل}. ذلك المأزق تقاسمه العرب من دون مساواة وكان ممكنا ان يكون للعرب قيمة وأهمية في التاريخ الحديث لو ارتفع النظام الاقليمي العربي إلى أي مستوى من مستويات الأداء الممكن كي لا نقول الثوري والتضحوي.

لكنه نظام ظل على الدوام نظاماً سلطوياً ناقص القدرة متسولاً خلف كواليس مجلس الأمن والدول الكبرى.
بل أصبح هذا النظام “وهو نظام افتراضي” مانعاً لأي تأثير عربي حقيقي على الأحداث ومنها قضية الحقوق الفلسطينيّة وتوسع “اسرائيل” في محيطها الفلسطيني والعربي على حد سواء.
بيد أن للقصة وجهاً آخر عندما يتعلق الأمر بالغرب الذي فقد فضائله وفي مقدمتها فضيلة النقد والمراجعة التي أهدرها هذا النظام في سوح الصراع العربي “الاسرائيلي”، ولعل من أهم فضائل الغرب وهو مصدر قوته بالوقت نفسه مبدأ المراجعة والقبول بالاعتراف بالخطأ... تشترك بذلك الكنيسة بعد الإصلاح الديني مع منظمات المجتمع المدني والاكاديميات والمثقفين، فضلا عن الحلقة الأصعب في هذا التراتب وهي طبقة الاحتراف السياسي التي أذعنت وتكيّفت مع واقع القبول بالاعتراف بالخطأ والذي يمكن الوقوع عليه أكثر في مذكرات السياسيين والقادة بعد تقاعدهم والتي تعتبر مصدراً ثرّاً وثميناً لقراءة التاريخ الحديث والمعاصر.
هذه الفضيلة الغربية تتوارى هي الأخرى ليس في سوح القتال وازهاق الأرواح المدنية بل وفي أروقة السياسة والتسويات الكبرى والتاريخيّة.
وحدها “اسرائيل” بمنجى عن قوانين التاريخ والجغرافيا في اساسيات انشائها كما في أسباب بقائها وتوسعها، والأغرب من ذلك هو دفاع الحداثة الغربية عن هذا الكيان باصرار نادر في عالم السياسة وتقلباتها.
يفتقر المستوطنون إلى اي مشترك جامع سوى الجهد الكبير للصهيونية في تحويل اليهودية من دين إلى قومية ورغم الفشل الذي أصاب تلك المحاولة إلا أن أطراف اللعبة وبالذات الحماة الاوربيون والاميركيون ما زالوا مصرين على استمرارها رغم الثمن الفادح في سوح الوجود الفلسطيني المدني وغيره.
إنَّ جهداً فكرياً وعلمياً دقيقاً لا بدَّ أن يواجه بالمزيد من العقبات المعرفيّة والاخلاقيّة وحتى البرغماتيّة في فهم معنى “اسرائيل” لدى النخب الاوربية المختلفة منذ إنشائها حتى اليوم.
لم تسوق هذه النخبة الكيان “الاسرائيلي” رغماً عن التاريخ والجغرافيا والمصالح   فقط بل وعن مغادرة بديهيات وأخلاقيات الحداثة الغربية وعلى الأخص الحداثة من جانبها السياسي فقد تحولت النخب الاوربية سليلة الإصلاح والنهضة والتنوير إلى حاخامات سياسية  أورواميركية ترفع لواء دولة مستلة من التوراة بنسختها الثانية والثالثة من دون اعتبار لأي معنى آخر.
ليس ذلك فقط وإنما قبلت النخبة السياسيَّة وحتى الفكريّة والاكاديميّة بالسلاح الأمضى والأكثر أصوليّة ودوغمائيّة وهو سلاح اللا سامية حتى أن مفكراً بمستوى روجيه غارودي ذهب ضحية هذا السلاح الذي يعبر مع مضمونه العام في قيام “اسرائيل” وضمانها أعلى درجات خيانة الحداثة بقيمها ومضامينها وأخلاقياتها.
يقال عادةً عن هذه الدولة أو تلك أنّها دولة لها جيش باستثناء “اسرائيل” فيتم نعتها بجيش له دولة، ورغم ذلك فقد أعاد اللبنانيون والفلسطينيون هذا الجيش إلى حدوده الحقيقيّة عندما أفلت هؤلاء اللبنانيون والفلسطينيون من آفات وعجز النظام الاقليمي العربي فأذلوا هذا الجيش في معارك اللبنانيين معه وفي معارك الفلسطينيين الآن بالسياق والثقة نفسيهما.
وما لم يسقط النظام الاقليمي العربي نهائياً وتجري مراسيم الدفن لانتاناته فلن يضمن العرب فرصة للوقوف بوجه الطموحات التوراتيّة في فلسطين بل وفي اراضي الدول العربية المحتلة كالجولان وبعض سيناء وغيرها.
ذلك ان الحديث عن الاستثناء العربي في عوالم المدنية والتحضر اصبح مغذيا ليس لبقاء “اسرائيل” وتوسعها بل لاشاعة اسطورة التفوق “الاسرائيلي” التي أذل اساسياتها اللبنانيون من قبل والفلسطينيون هذه الساعات.
يمكن للعرب وخاصة بعد خسارتهم الفرصة الذهبيّة بوجود الاتحاد السوفييتي الذين أسهموا بغباء منقطع النظير في إسقاطه يمكنهم ومن دون آليّات النظام الاقليمي العربي أن يحاصروا “اسرائيل” التوراتيّة بجعلها اكثر كلفة على حماتها وخاصة من النخبة الاوروبية المنافقة، وهو شرط كافٍ وسوف يكون صالحا للقياس ودليلا للعمل اذا انبثق المجتمع العربي كقوة حقيقية بوجه دولته التسلّطيّة غير العقلانيّة التي تأخذ بخناقه، خاصةً بوجود تلك الانظمة العليلة الباحثة عن البقاء بكل وسيلة مع دولتها الهشة غير القادرة على ضمان اي درجة من درجات العدل في مجتمعاتها، فضلاً عن التوازن الاستراتيجي مع “اسرائيل”.
في جهود إعادة تعريف “اسرائيل” سوف ينبثق سؤال عن لماذا تخرق النظم الاوروبية كل ثوابتها وتاريخها وحتى مصالحها لضمان أمن دولة توراتيّة توسعيّة لا يمكنها وبحكم كل الظروف البقاء والاستمرار؟، الاجابة عن ذلك يمكن ان تبدأ بالحقيقة الواضحة والتي يحاول حاخامات الحداثة الاوروبية التعتيم عليها وهي أن مشكلة اليهود ليست مشكلة عربية إسلامية بل هي مشكلة أوروبا منذ قرون وقد ألصقوها بالجسم المشرقي العربي والمسلم تخلصاً من تبعاتها وإرضاءً لنزعة شعبيّة في بلدانهم.
يؤكد فشل تجارب الفصل العنصري وعلى الاخص في جنوب افريقيا ان لا مستقبل لهذه الانظمة التي قامت معاندة للتاريخ والمستقبل والحداثة.
وهذا الوعي ليس صادما الا للنخب الاورواميركية وهي تصدم الوعي واخلاق الحداثة بهذه الطهرية التي تبدو مضحكة عندما تضفيها على مسمّيات مثل شتيرن وهاغاناه واورغن وهي منظمات مصنفة ارهابيّة لدى المنظمات الدولية المختصة وهي التي أسست “لاسرائيل” قبل وبعد 1948.
السؤال يصدمه سؤال... لماذا لا تجرّب أوروبا ونخبها صداقة العرب الأغنى والأوسع رقعة جغرافية والأكثر تجذراً في الارض والتاريخ والمستقبل بدلا عن كيان قلق اسطوري لا تسعفه كل ظروف الطاقة والامداد الصناعي بالبقاء.
لكن القلق الأكبر عندما تكون    اجابة ذلك السؤال المتعسّر عند العرب.