ديموغرافيَّة {الأماكن}

آراء 2023/12/17
...

سوسن الجزراوي

يعرّف الباحثون الديموغرافيا بأنها علم السكان، والذي يقوم على دراسة علمية لخصائصهم من ناحية التوزيع والأعراق والأنساب، إلى ماغير ذلك. وقد يرى البعض أن الترتيب والتوزيع وفق هذا المفهوم، يبدو عشوائياً تارة، ومنتظما تارة اخرى، وذلك استناداً إلى النظرة العامة والشاملة لقاطني هذه المنطقة أو تلك، دون دراية دقيقة بمكوناتها المتداخلة في أحيان كثيرة.ولأن السكان وتوزيعهم وأعدادهم ونسبة الزيادة فيهم وغير هذا، هي المساحة المعتمدة في هذا العلم، أرى أن نقف قليلا عند ديموغرافية  (الأماكن) من ناحية البناء والسكن بشكله الجامد وتأثيراته الاجتماعية، ولتحقيق هذا كان لابد من العودة للمخططات العمرانية وضوابط وشروط البناء اعتمادا على اركان عدة
 منها الجمالية والصحية والاجتماعيَّة وغيرها، فبعد أن كانت القياسات تشترط أن تكون للمنزل المشيد واجهة عرضها لا يقل عن ثمانية امتار، أصبحنا اليوم امام منازل واجهتها متران أو ثلاثة أمتار!، بمعنى أن سكان هذا المبنى قد يضطرون للنوم وهم واقفون، ربما يقول البعض: أليس هذا أفضل من الايجارات والكلف الثقيلة على كاهل المواطن؟
نعم، أن يكون لديك منزل أفضل من تتحمل عبء الإيجارات القاسية، ولكن ومع هذا، لا يجب أن تكون هذه الجدلية المريحة، هي نفسها الفوضى، التي تعيث فسادا بالأرض، وتجعل الناس تتخبط مع بعضها البعض، فالشارع أصبح متخماً بالمركبات، التي ازدادت بشكل مرعب، بسبب زيادة المنازل في الشارع والمنطقة ذاتها، والارصفة صارت مستباحة لتتحول من رصيف للسير الآمن إلى موقف خاص لسيارات كل منزل، فهذه الأبنية (فاقدة الشرعية والأهلية)، لا تحتوي على مرائب، ناهيك عن فقدانها الشروط الصحية التي ذكرناها آنفا، سواء من حيث التهوية أو زحام حجرات المنزل، اضافة إلى غياب العنصر الحيوي الأهم لتنقية الجو، وهو (الحديقة).
وبين هذا وذاك لا ننسى التخلخل المجتمعي إن صح التعبير، فبعد أن كانت المساحات كبيرة ومعقولة، تحولت هذه الأماكن إلى أبنية متلاصقة حد اللعنة، ونتيجة لهذا أصبحت الكثير من مميزات المدينة المتحضرة في خبر كان، اذ يعرّف هذا التحضر بالتخطيط: بأنه مقياس لعلاج الاختناقات المرورية من ناحية وتوفير مساحات خضراء تسهم في احتواء ساكني هذه المناطق، دون الهروب من زحمة الكثافة السكانية المهولة والتي زحفت على البنى التحتية، هذه التي تهاوت بفعل الضغوطات السكانية، فالمخطط العمراني حين يُشرع بوضع خرائط هذه البنى، سواء المياه والمجاري والطاقة الكهربائية، إنما يصممها على اساسات منتظمة متعارف عليها في اغلب المدن المتحضرة، إلا أن ما يحدث اليوم، هو الفوضى بعينها، فتكالب الأعمدة الكهربائية واسلاك المولدات وخطوط الانترنت أدت إلى خلق صورة بشعة مشوهة فوضوية، لا تقترب حتى من شكل شبكة العنكبوت الأنيقة، التي يغزلها صائد الطرائد ذاك بحرفية مدهشة.
ومع أن تصاميم البناء لايتطلب بالضرورة تماثل المنازل وكأنها نسخ مكررة تفترش الأرض، إلا أن التباين المبالغ به سواء بالطراز الفخم أو المساحات، يخلق نوعا من التشويه البصري، ومن ثم إنتاج لوحة سريالية، قد يمطرها بالرصاص مبدع الفن السريالي سلفادور دالي إن شاهدها.
فطراز المدن يعتمد الجمال والتناسق كعنصر من عناصر البيئة السليمة والأنيقة.