الاوبرا فن الفنون المشهدية يجمع الموسيقا الى الدراما الى المقول النصي بحركات متقنة جماعية ، والقص الروائي ، ان توصل الى نص يملك أن يصور هذه الحالات بذات الدقة والاقناع ، يمكننا ان نسميه نص الاوبرا الروائية ، تيمناً بخصوصية جمال الاوبرا . ونرى مظهر اوبرا الرواية يتمثل بشمولية الجمال (للصوري والحركي والدلالي) . لنمثل بـ [سارة تأثرت كثيراً لمرض ووفاة والدها وعانت من الكآبة لفترة طويلة بعد وفاته.
احمد كان يحاول ان يتماسك من أجلي ومن أجل اخته ،ولكن في رحلتنا الى العراق كان ينهار بين الحين والآخر ،.. يغدو طفلا يضع رأسه على صدري ويبكي .رحلتي الشاقة الأخيرة الى العراق ،كنت اشعر فيها بألم مضاعف ، موت ابراهيم وغربتي بين أهلي، رأيت الجميع من حولي كأنهم آخرون لا اعرفهم ، أراهم لأول مرة، لقد تغير أهلي كثيرا أو ربما أنا من تغيرت.. شعرت بغربة حقيقية بينهم ،غربة أكثر من غربتي بهولندا . لم أجرؤ على قول ذلك... لأنه شعور غريب جدا ،مؤلم ، ومخجل . لكن هذه المرة الأمر مختلف ، أنا من يريد الذهاب الى العراق ، أنا قررت ذلك ، شيء ما دفعني لذلك.
ربما حياة ديفيد فتحت لي ابواب الماضي الذي لا أخافه بعد الآن ،بل صرت أبحث فيه.أصبحت الآن أرى الماضي بعين أخرى تماماً ،كما أرى ماضي دافيد](1).نلاحظ المقطع اوبرا رؤيوية كعرض مباشر كونه هنا مقطعا مكتوبا .ثم ،سنلمس في المقطع حركتين انتقاليتين من هولندا الى العراق ومن العراق الى هولندا ،وهو ما يمكن ان يضاهي الدور الحركي في الاوبرا. وقد تختص الاوبرا بإشاعة نوع من التقاطع الدرامي وقد حقق النص ثلاثة مواقف بإزاء ذلك (الندم على الغربة ، الشعور بالذنب من عدم التضامن مع الأهل في الناصرية ،المزج المتنافر المقنع بين قضية تراث العراق وتراث أوروبا )، وعلى قدر واحد من المرتبة ـ للماضي الذي يوحي بالمستقبل. ان (القص لحياة دافيد والحركة الانتقالية الجغرافية ، والصورة الملموسة لعائلة آمنة والنص اللغوي للمقاطع المكتوبة) باتساق متضافر يعني ان جماليات الفعل الأُوبرالي قد اتمتها الكاتبة ميادة خليل بجماعية اجتماع ( الثقافة المتحضرة بين شعبين ، مع الموسيقا المبطنة للتنغيم غير المباشر ـ بشعر الشريف الرضي).
هكذا يُراد لنا ان نفهم الفعل الروائي كونه طموحاً للتلقي الفاعل!.بينما كون القص تراكما دلاليا فيمكن النظر اليه بِعَدّه بنى يتلو بعضها بعضاً بموجب الفهم الآتي:” البُنى هي قوى تنظيم الدلالة كنسق في اللغة، وهي الترتيب النصي للأفكار المتقاربة “ على وفق ما جاء في قاموس علوم اللسان. بمعنى ان هيكل الترابط الدلالي بين اللغة الاشارية والفهم البعيد للنص يضمن لنا وجود نص متماسك بأفكاره واغراضه المنضمة بعضها للبعض:يروي دافيد عبر المذكرات التي عثرت عليها آمنة قائلا : [بعد عشر سنوات من الترحال ، خطرت لي فكرة الاستقرار في هولندا .
وجدت عملا في المحاماة، في مكتب فان دايك للمحاماة الى جانب عملي في جامعة أمستردام كأستاذ محاضر ،وتم الأمر بالفعل. عدنا الى هولندا في 1991. انشغلت سلمى بالرسم ،افتتحت معرضا في أمستردام ومعرضا في لندن ،وكنت اخطط لشراء منزل قريب من المكتب ،لكن بدأت صحة سلمى تتراجع يوما بعد آخر، “سرطان الرحم” قال الطبيب أخيراً ،وبدأنا رحلة أخرى معاً ،رحلة حب أخيرة. ـ نسكافيه مع الشريف الرضي ، ص 62].سنتلمس الفعل الروائي الأوبرالي ممتثلا لانتظام شمل التسلسل الزمني التراجعي المضلل كون الروي على لسان دافيد بينما هو منقول عن آمنة التي نقلت عن مذكرات
دافيد .
وجرى تسلسل الاحداث كأنها منتظمة بصور حركية لفيلم بينما واقعها واقع متناثر بأشد ما يمكن من الفوضى وكذلك حال النسق اللغوي الذي يأخذ بالجملة ذات الاحتمالات غير المتوقعة فلسان الروي يتحرك بسرد لغوي لا تعقيد فيه كلاماً أو حكياً مع الذات ـ بحرية تذيع التفاصيل والروح في كل فقرة، يتجه القول الى قضيتي الاستقرار والعمل بمقابل المرض والفقدان اللذان قلبا اتجاه اللغة الى عكس مسارها نحو اللا استقرار واللا عمل والموت ، وهو المضمر الايحاء اللغوي ، تترتب الافكار بحبكة تناسب تطور الوعي المتوقع لتطور المروية . العائلي لزوجين محبين مبتهجين بحياتهما ثم تترتب الافكار ثانية بانقلاب كامل يوحي بكارثة تفيض بها الكلمات الثلاث الأخيرة كونها الترتيب الثالث لأفكار المقطع (رحلة حب أخيرة)! ، ذلك كله يحيل ـ الى دلالة وفهم أساسيين تسربا عبر لغز التأريخ الاول (عدنا الى هولندا في 1991) فهي معلومة عادية، وهي حد تأريخي لمحطات البطل الراوي دافيد، لكن الفهم يذهب بعيداً جداً لكون هذا العام زرع سرطان الفرقة والطائفية والاحتلال والدكتاتورية بأعنف ما فيها من هتك وقتل واعتداء، انه العام الذي زرع السرطان ببطن العراق ، ذات السرطان الكامن في احشاء أي خير وأي جمال وأي رغبة لأهل البلد في بناء حياة جديدة سليمة! أيمكن لمثل هذا العام ان يوحي بغير هذه النتائج لفهم دلالاته في المقطع
السابق؟
* ميادة خليل ، رواية نسكافيه مع الشريف الرضي ، دار المتوسط ،ايطاليا ـ العراق ، 2016(1) الرواية ص57