الرأسماليَّة بين براثن العبوديَّة وزيف المثليَّة

آراء 2023/12/20
...






 كريم موسى


قدّم لنا فيلسوف العلم النمساوي كارل بوبر رؤية فلسفيّة تخصّ مكوّنات الواقع من مركب الوجود والمعرفة، قسّم فيها الواقع إلى ثلاثة عوالم متداخلة ومتكاملة.

وقد جاءت نظرية بوبر كتعديل فلسفي لنظرية العوالم الثلاثة للفيزيائي الألماني ماكس بلانك، الذي قسم بها الواقع العلمي إلى: العالم المادي، وعالم تجارب وإدراكات العقل، وعلم الفيزياء، وكلا النظريتين تقعان تحت مظلة التفسير الماركسي لعلاقة الإنسان بالعالم الخارجي.

إذ ينظر ماركس أن الإنسان ليس ذلك المشاهد السلبي المنفعل، يشكّل عقله العالم الخارجي كما يشاء، وفق ما ذهب له التجريبيون، ولا ذلك الكائن ذو العقل القادر على خلق الفكر والوجود، كما يذهب العقليون المثاليون، بل يرى ماركس أن الإنسان هو «الكائن الفاعل»، الكائن الذي يؤثر في العالم الخارجي ويغيّره، وفي الوقت نفسه يكيّف ويعدّل ناتجه المعرفي من جرّاء ذلك التغيير، فيرشح من هذا التفسير الجدلي ثلاثة أطراف، العالم الخارجي، وعالم الإنسان، وعالم المعرفة. 

على هذا المنوال خطّ كارل بوبر نظرية العوالم الثلاثة، بوصفه العالم الأول هو العالم الطبيعي المادي، والعالم الثاني هو عالم الحس والوعي، أي عالم الإنسان، والعالم الثالث هو كل ما أنتجه الذهن البشري من معرفة، وكل ما أنتجته هذه المعرفة من تقنيات صناعيّة وأدبيّة وفنيّة.

علاوة على ذلك، أن عوالم بوبر لا تفصلها حدود مانعة، بل هي متداخلة، وسيكون العالم الثاني، عالم الإنسان، حلقة الوصل والوسيط بين العالم الأول المادي، والعالم الثالث المعرفي، بالنظر إلى أن ما ينتجه الإنسان من معارف في العالم الثالث، يطبقها في العالم الأول المادي لغرض استثمارها عمليَّاً، وفي الوقت نفسه يغيّر في العالم الأول.

على أساس هذا التقسيم لعوالم الواقع الوجودي المعرفي، ومنطق التفاعل فيما بينهم، لِنَرَ هل يمضي قدما هذا المنطق في تداخل وتكامل تلك العوالم الثلاثة، ولم ينلها التشويه والاغتراب، إذا ما تصدّر إدارة هذا الكوكب اقتصادياً وسياسياً لَفايثن النظام الرأسمالي، ذلك الأمر الذي لم يلتفت إليه كارل بوبر الرجل الحالم بالمجتمع المفتوح، ونصير الليبرالية، فدعونا نتأمل المشهد كالآتي:

أولاـــ العالم الأول (عالم الطبيعة): الاستثمار الجائر للمواد الخام المتوفرة في كوكبنا، بواسطة نهم ووحشيَّة الماكنة الرأسماليَّة، علاوة على ما تزفره تلك الماكنة من مواد احتراقيّة سامة ودخيلة على توازنات الطبيعة، أدى ذلك إلى حصول تلوث في بيئة هذا العالم الأول، وصل إلى حدِّ التشويه البيئي في التوازنات الأساسيَّة التي استقرّت عليها طبيعة كوكبنا، التي تعاني من اغتراب مستمر وممنهج لهويتها التي رسمتها وفق قوانين التطور الطبيعي عبر مليارات السنين.

فضلاً عمّا يسفر من هذا التشويه من كوارث تهدد مجمل الكائنات الحيَّة، وعلى رأسها كائنات العالم الثاني، الذي ينتمي له مفترسو الرأسماليَّة، والذين يعلمون بحجم هذه الكوارث الطبيعيَّة، استناداً إلى بحوث ووثائق دستورهم المتمثل بالعلم، ورغم ذلك هم ماضون بتشويه هذا الكوكب الجميل.

إنّ العقل الرأسمالي ينظر إلى العلاقة التفاعليَّة بين الإنسان والبيئة الطبيعيَّة ليست علاقة تكافليَّة، التي تفرض أن ينعم الإنسان من الطبيعة بما تجود به من مستلزمات حفظ وتطور حياته، متمثلاً ذلك بالمكتسبات الماديَّة الخام، علاوة على توظيف ظواهر الطبيعة من ضوء وحرارة وأمطار ورياح وغيرها، لتطوير وتحريك ماكنته الصناعيَّة، وبمقابل ذلك يكفل الإنسان أن لا ينتج من هذا الاستثمار تغيراً سلبياً على الشروط والقوانين المؤسسة لديمومة التطور الإيجابي للطبيعة، فالإنسان وفق هذه العلاقة يرى صورته في مرآة الطبيعة، وعلاقته معها ليست علاقة هيمنة ونهب، بل هي علاقة استجابة إيجابيّة واستكمال لما تفتقر إليه الطبيعة. 

نجد العكس من ذلك، أن العقل الرأسمالي يرى أن البيئة الطبيعية ثروة مشاعة اكتنزها الإنسان، فهي مشروع للهيمنة والنهب، وعليه أن يبذل قصارى جهده لاستغلالها أشد وأبشع الاستغلال، ذلك بتحويل مادتها الخام وظواهرها الطبيعيّة إلى رأسمال، الصنم الأكبر الذي تقوم بعبادته الرأسمالية، ويبقى الأثر السيئ على البيئة الطبيعيّة الذي خلفته عملية التحويل مما هو طبيعي إلى رأسمال، غير ذات أهمية بالمقارنة مع حجم الفوائد المجنيّة من هذا النهب والافتراس.      

ثانياــــ العالم الثاني (عالم الإنسان): رغم الأثر السيئ الذي تعرّض له الإنسان جراء التشويه الممنهج للعالم الأول وكما أسلفنا سابقا، فالأمر لا يقتصر على هذا الحد، إذ لا يوجد كائن حي على سطح وباطن المعمورة، اضطهده النظام الرأسمالي مثلما قام باضطهاد كائنات العالم الثاني، لأنَّ الإنسان هو الكائن المثالي الوحيد الذي يقف على كتفه المخطط والغاية الوحشيَّة للنهم الرأسمالي، ذلك من زاوية أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتوفر فيه القوة البدنيَّة إلى جانب سحر الذكاء البيولوجي، وهما الركيزتان اللتان يبتغيهما مَن يرمي إلى الإدارة التعسفيَّة لماكنته الإنتاجيَّة. 

لذلك سعت الرأسمالية منذ بواكير نشأتها إلى استغلال القطيع الأكبر من كائنات هذا العالم،وبأجور لا يمكن مقارنتها بجهودهم المبذولة، هذا إذا ما كانت تتاجر بأجسادهم، فيسقط عندئذ أي أجر، ناهيك عن دفعهم إلى جحيم حروبهم بين آونة وأخرى، والإيغال في التفنن بتشويه هذا العالم الجميل.

إنَّ السرقة المنظمة لكدح الإنسان والعبودية التي تعرض لها، هي نوع من أنواع النهب والهيمنة التي تعرضت له البيئة الطبيعية للعالم الأول، مع فارق واحد أساسي، هو أن العالم الأول الطبيعي عالم صامت لا يعترض على انتهاكات المارد الرأسمالي، في حين العالم الثاني الإنساني هو عالم المعاناة والسخط على من ينتهك حقوقه وحريته، وهذا السخط كائن وقائم حتى في لحظات السكوت، فالعيون والقلوب النابضة جديرة بالتعبير عنه، الأمر الذي تسبب بمضاعفة معاناة الإنسان لوقوفه بالضد مما يرمي له ذلك المارد، عن طريق اضطهاده وتجريمه، وصولاً إلى سبك هذا الرفض الواسع بقوالب ذات نزعات دينيّة وقبليّة وايدولوجيّة، ومن ثمّ تحويلها إلى حروب مهلكة، يكون الخاسر والمضطهد الأول بها هو عالم الإنسان.  

ثالثاـــ العالم الثالث (عالم المعرفة والمعلومات): بعدما نال التشويه العالمين السابقين، وتماشياً مع النهج الاستغلالي لتكديس رؤوس الأموال، نجد أنَّ النظام الرأسمالي أغدق العطاء على هذا العالم وطوّره ورفع من شأنه، ليس حبّاً بالمعرفة والعلم، وإنما طمعٌ فيهما، على أساس أن هذا العالم جوهره المعرفة وتقنياتها، التي بواسطتها يستطيع النظام الرأسمالي إرضاء النهم الشرس في استثمار القدر الأكبر من الظواهر الطبيعية والمواد الخام في العالم الأول. 

ومثلما توقع بوبر أن العالم الثالث- حسب تقسيم بوبر-، عالم المعرفة والمعلومات وتقنياتها، سينمو ويستقل رويدا رويدا، وهذا ما نراه جليّاً منذ ثمانينيات القرن المنصرم، ولكن اليوم نرى العالم الثالث متمثلاً بالعالم الافتراضي المعلوماتي أسس امبراطورية كبرى مستقلة، استندت إلى رساميل رقميَّة هائلة، التي شيّدت اقتصادا معلوماتيا معرفيا تصدر جميع اقتصاديات العالم، تحقق هذا الاقتصاد العملاق بواسطة مبتكرات برمجيّة تتطور بسرعة الضوء، لتؤسس ذكاءً اصطناعياً أغرق الدنيا بالمعلومات ونظم السيطرة والتحكم وتأمين نقل أموال جميع اقتصاديات العالم، علاوة على مظلة الاتصالات العملاقة التي تؤمن سرعة نقل المعلومات، ورصد أي بقعة على الكوكب وربطها بباقي الأجزاء، ورغم هذه المقاييس الفلكيّة لهذا العالم الافتراضي، نجد مَن تسيّد على هذه الإمبراطورية بضعة شخوص غادروا العالم الثاني وانخرطوا في قيادة العالم الثالث الافتراضي واصبحوا جزءاً منه. 

فما لم يلتفت إليه كارل بوبر وتعديلاً لنظريته، أن العالم الثالث المعلوماتي سيلغي العالم الثاني الذي أنتجه، وسيحيله إلى جزء من العالم الأول، العالم المادي الموضوعي، وسيمسي العالم الثاني، عالم الإنسان، تابعاً تافهاً للعالم الأول الكبير، إذ إنّ العالم الثالث الذكي سيستعمل العالم الثاني للإنسان، كما يستعمل السليكون والحديد في بناء ماكنته، وكما يستعمل قنوات الصرف الصحي لتصريف منتجاته، لأنّه لم يعد بحاجة إلى عالم الإنسان، ولم يعد بحاجة إلى وساطته، فهو يستطيع بذكائه الوصول مباشرة إلى العالم المادي، بعد أن رحّل عالم الإنسان كل ممتلكاته العقليَّة والادراكيَّة إلى سليكون العالم الثالث، في مارثون رأسمالي لاهث وفاحش من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من الأرباح، وذلك بتسخير تكنولوجيا العقل وتكديسها في مستودع العالم الثالث، لتحويل أكبر ما يمكن من مخزون الخام في العالم الأول المادي إلى منتجات صناعية قابلة أن تتحول إلى رأسمال متكدّس، دفعت ضريبته أيادٍ عاملة لشريحة كبيرة مستغلَة من بني البشر.

ويبدو أنّ المثليّة التي دعا لها والتزم بها كبار جهابذة النظام الرأسمالي المعاصرون في اللحظة الراهنة، دليل تطبيقي على النزعة الرأسمالية الرامية إلى التخلي عن نمو الكتلة البشريّة في العالم الثاني، والتخلّص منها تدريجيا واستبدالها كليّاً بما تجود به ثورة الذكاء الاصطناعي من خدمات عملاقة على صعيد القوة والدقة والذكاء، وكما أسلفنا سابقا.

رغم الواجهة الاخلاقيّة التي يبرزها دعاة المثلّيّة بأنّها نزعة تدعم المطلب الجوهري التحرري للإنسان، وما أكثر هذه الواجهات الأخلاقية التي تبوح بها القريحة الرأسمالية لتجميل بشاعة النوايا الخفية وعلى رأسها الغلاف الأخلاقي لمفهوم الاستعمار السيئ الصيت، ومع ذلك كشف هذه النوايا الخفية للنزعة المثليّة ليس بالشيء العسير، من زاوية أنّنا لا نستطيع الهروب من تداعيات المثليّة على البيئة البيولوجية للإنسان، فلو التزم بها طيف بشري كبير يؤدي بالضرورة إلى التضاؤل التدريجي والذبول الحتمي للإمبراطورية الإنسانية، لأنّ ما يتبقى فاعلا من الناحية البيولوجية هو الموت، بسبب محدودية عمر الإنسان، يقابله انحسار فاعليَّة التكاثر والقضاء عليها، بسبب العقم البيولوجي الذي هو جوهر المثليّة. 

إنَّ المثلّيّة مؤامرة ناعمة تتماشى مع نوايا نهم الثقب الأسود الرأسمالي الذي لا يشبعه شيء، بعد أن اعتبر الإنسان كائنا يستهلك منه الكثير من الخدمات والرأسمال، بمقابل رخص وكفاءة ما ينتجه الذكاء الاصطناعي، لذلك صار القرار إلى التخلص من هذه الكثرة البشريّة، ولصالح نخبة قليلة جداً تمتلك أساطين ثروة العالم، التي ستتولى قيادة هذا الكوكب والتي لا تلتزم بالنزعة المثليّة من اجل توارث السلطة والمال.

أن النذير الأول لتداعيات المثليّة على الصعيد البيولوجي للإنسان سيكون تنفيذه في العالم الغربي، وسيكون الإنسان الغربي هو الهدف الاستراتيجي لتمرير هذه المؤامرة، من ناحية سهولة تمرير المبررات الأخلاقيّة الزائفة للنزعة المثليّة في هذه البيئة البشريّة التي قطعت ثقافتها شوطا طويلا في المشوار التحرري، ولما يستنزفه الإنسان الغربي بشكل مباشر من أموال من جيب الغول الرأسمالي تلبية لاحتياجات هذه الكتلة البشريّة المتحضرة من الناحية الأخرى.

أما العالم الشرقي فلا تطوله التداعيات البيولوجيّة للمثليّة في الوقت الراهن لسببين، الأول، أن العالم الشرقي ما زالت ثقافته تحت هيمنة الايدولوجيات والأديان، فمن الصعب تمرير المبررات الأخلاقية الزائفة للنزعة المثليّة التي تتعارض مع المنظومة القيميّة الأخلاقيّة لمعتقدات العالم الشرقي، والسبب الثاني والأهم، أن العالم الشرقي ما زال يرزخ تحت القبضة الرأسمالية الحديدية القديمة المتمثلة بالعبودية، وبصورها المعاصرة والمتنوعة والتي ما زالت ينبوعاً مدراراً للمال والتوسع، ناهيك عن الحاجة الضرورية في بعض المهام التي لا يقوم بها إلا الإنسان، سيتم إسنادها إلى الإنسان الشرقي، لرخص أجره، ولسهولة السيطرة عليه، وبهذا المشهد استبدلت الرأسمالية الإنسان الغربي تماماً بذكاء الماكنة الاصطناعية من جهة، وبعضلات وعقل الإنسان الشرقي من جهة

أخرى.