د. يحيى حسين زامل
تتجسّد رسالة الأنثروبولوجيا كعلم اكاديمي وإنساني في نصوصه وسردياته المعاصرة في إحياء إنسانية الإنسان، من خلال النظر إلى هذا الكيان بعين القداسة والاحترام بصرف النظر عن جنسه وعرقه ولونه ودينه وطائفته، هكذا تعلّمنا من هذه السرديات المتضافرة في مختلف الدراسات والأبحاث، ومن أساتذتنا الذين تعلمنا منهم أبجديات هذا العلم الإنساني؛ حتى تُرجم بأنه علم للإنسان بوصفه طبيعياً وحضارياً واجتماعياً وثقافياً بحسب تعريف رائد الأنثروبولوجيا الأول في العراق «شاكر مصطفى سليم».
وإن بدت هذه «الرسالة» غامضة ومشوشة في نظر الكثير من أبناء جيلنا سواء كانوا من عامة الناس، فهم يجهلونه بداية من الاصطلاح ونهاية إلى جوهره، وبما يهتم، وما غايته، أو من قبل بعض الباحثين الذين ينظرون إليه كـ «علم ماكر»، كما جاء في عدد من المقالات التي نُشرت مؤخراً في إحدى المؤسسات الدينيَّة، التي تشرف عليها بعض العتبات الدينيّة في العراق، فقد وضعت هذا العلم في خانة التخوين رجوعاً إلى زمن غابر مضى عليه قرن من الزمان، وكأن هذه المؤسسات – مع شديد الأسف- تقودنا إلى الوراء، بدل السير إلى الأمام، ونستطيع أن نعطيهم العذر في ذلك، فالجهل بهذا العلم يدعو بلا شك إلى عداء مُستحكم، كما في المقولة المشهورة (الناس أعداء ما جهلوا).
وعلى العموم لسنا بصدد الرد على ذلك الكتاب ومقالاته الملغومة، ولكننا بصدد توضيح رسالة هذا العلم الإنساني الذي نشط ونما في مختلف البلدان؛ مرسخاً القيم الإنسانيّة العليا من (الحرية، والعدالة، والمساواة)، وساعياً إلى احترام الشعوب والمجتمعات على اختلاف رؤاهم ومعارفهم وقيمهم وما يعتقدون، من خلال نظريات وابداعات منهجية كـ «النسبيّة الثقافيّة»، التي جاء بها «فرانز بواس»، وهو يدرس الشعوب في البلدان المختلفة، ورداً على «النظرية العرقية»، التي تُمجد بعض الأعراق البشريّة وجيناتها، وتفضلها على الآخرين.
ولكل علم رسالة يبثها في الفضاء العام والخاص، وغاية ورسالة الأنثروبولوجيا الواضحة والجليَّة (الإنسان)، وجوهر بحوثه ودراساته (الإنسان)، الإنسان وما يحيطه من طبيعة وبيئة في جبالها وسهولها ووديانها وبحارها وأنهارها، وكيف تكيّف مع هذه البيئة، أو عدّل عليها في تكامل ايكولوجي استمر ملايين الأعوام، أو في علاقاته مع الهوام، المخلوقات البكماء المشاركة له في الوجود، وكيف فهم سلوكها ودجّنها طوع بنانه، أو في علاقاته مع أخيه الإنسان الآخر المشترك معه في الإنسانية، والمختلف معه في العرق والجنس واللون واللغة، وكل هذه المظاهر مجموعة جوهر اهتمام هذا العلم، فضلاً عن الجانب الثقافي والروحي للإنسان بطقوسه وسحره، وعاداته وتقاليده، وما يؤمن من خرافات
وأساطير.
ورسالة هذا العلم وهو يواكب الإنسان من الزمن البدائي/ التقليدي، مروراً بالوضعي/ الحديث، ونهاية بـ «إنسان ما بعد الحداثة»، الذي هو في سيل من المعلومات، وأمواج متلاطمة من العلوم والمعارف التي تنساب في سرعة وكثافة يصعب السيطرة عليها، لا سيما وقد اصبح عالم التكنولوجيا وثورة الاتصالات والميديا في متناول كل يد، وأصبحت هذه الأيدي تُصدّر من كل بيت وحارة ما تريد قوله، وما تشعر به من شعور وأحاسيس، وما تبعث من رسائل وأهداف وغايات، أي أننا فقدنا تلك المركزية التي كانت تحتكر الإعلام في جانب واحد، وأنّنا في طور التعدد والانفتاح على العالم الكوني، منتقلين بهذا الإنسان من حالة العمى الاجتماعي، إلى حالة البصيرة، فتساوى في نقل المعلومة جميع بني الإنسان، ليصبح ذلك الإنسان فاعلاً ومتفاعلاً بعد أن كان في الهامش، طبعاً بشرطها وشروطها (القوة، الابداع، التجديد)، (قوة الرسالة، ابداع الرسالة، تجديد الرسالة) لتتوافق ما عالم ما بعد الحداثة.
ومع هذا التشظي في العالم اليوم، تحاول الأنثروبولوجيا أن تحافظ على هوية الإنسان بكل مجرداته من تغول وسيطرة عوالم الحداثة وما بعدها، وتعيد صوغ هذا الوجود الذي بدا بأنّه على المحك أمام هذه الآلات المهولة التي تكاد تسحقه وتحيله إلى مجرد رقم في مصفوفة رقميَّة كبيرة، من خلال العودة إلى التفكير بجوهر خلق الإنسان ووجوده ومصيره الأخير، وهذا ما تمَّ ذكره في مؤتمر علمي قبل مدة في إحدى الدول العربية، وكان بعنوان (العودة إلى الأنثروبولوجيا)، وكأنّه تذكير لنا بأهمية هذا العلم ومركزيته في
حياتنا.
وخلاصة القول؛ إنّ رسالة الأنثروبولوجيا المركزية والوحيدة «الإنسان» بكل ما يحتوي من قيم وأفكار ومعتقدات وثقافة ولغات... فما أعظمها من رسالة.