مؤيد أعاجيبي
يكاد يتفق الباحثون على اختلاف انتماءاتهم وجنسياتهم بأن الفلسفة اليونانية قد أثرت اثراً بالغاً في علوم الفلسفة الاسلاميَّة سواء كانت المعرفية، الكلاميّة، الصوفيّة، وكان للأخلاق الرواقية تأثيرٌ عميق في الفكر الإسلاميّ، ولذلك أصبحت معروفة بين جمهور المثقفين في مناطق الشام ومصر، وذلك منذ القرون الأولى للميلاد. لا شك أن المسلمين استفادوا كثيراً من هذه الآراء في سياق المناظرات والمناقشات بينهم وبين المسيحيين من جهة، وبينهم وبين الروم وأهل الملل الأخرى من جهة أخرى، كما أشارت التقارير إلى ذلك، وفقاً لما ذكره المستشرق الإيطالي دافيد سانتلانا.
في مقالته التي تحمل عنوان « الرواقيَّة والإسلام» يذهب عثمان أمين الى أنَّ أول ما تم نقله من علوم اليونان إلى العالم الاسلاميّ في القرن الأول هي كتب جالينوس في الطب والروحانيات وكذلك كتاب لغز قابس وهو كتاب يُنسب إلى رفروس الرواقي. وفي مقالته الأخرى «الرواقيَّة والفكر الإسلامي»، التي تم نشرها باللغة الفرنسية والتي ترجم الباحثون مقاطع منها يشير عثمان أمين إلى أنّ تأثير الفلاسفة الرواقيين على المفكرين الإسلاميين يُعادل تأثير المشائين والأفلاطونيين. يستند أمين في وجهة نظره إلى آراء عدة علماء، منهم أبو بكر الرازي الذي يذكر أن أول كتاب تمت ترجمته إلى العربية كان كتاباً للفيلسوف الرواقيّ كريسيبوس. ويشير أيضاً إلى قول المسعودي الذي يؤكد أن الكتب الرواقيَّة كانت من بين أوائل الكتب التي تمت ترجمتها إلى العربية عبر السريانية، وكانت متداولة في القرن الأول والثاني للهجرة. ويضيف المسعودي أن الرواقيين كانوا يُعرفون باسم الاسطوانيين، (قبل أن يعرفوا بأصحاب المظلة). والاسطوانة هي تسمية شائعة لكريسيبوس الرواقي الذي يوضح فيها مفهوم الجبريّة.
والانتشار الواسع لفهم الرواقيَّة في العالم الإسلامي خلال القرن الأول والثاني، كان يعزى إلى ذرائع تُبرر أفعال الحكام عبر تصويرها كأفعال إلهية، حيث قاموا بتبرير أفعالهم بأنّها تحمل صفة إلهية. كما استُخدمت الجبرية الرواقيَّة من قبل لتبرير أحداث تاريخيّة مثل حرق نيرون لروما، حيث تم تبرير هذا الفعل بموجب إيمانه بأنه كان إرادة إلهية. وكذلك تبربر قتل الملك هارديان لأحد عبيده، حيث جُردت تلك الأفعال من المسؤولية بزعم أن القدر كتب لها الحدوث، وأن الحاكم ليس إلا مجرد أداة مجبرة على تنفيذها. وقد تم استخدام هذا التفسير في العديد من التبريرات التي اعتمدها الحكام أثناء الثورات، لتبرير قراراتهم وأفعالهم في سبيل الوصول إلى السلطة.
والجبرية التي يتحدث عنها كريسيبوس هي أن الإنسان وافعاله يسيران بنظام العلـــة والمعلول، ولا محل فيه للمصادفة ولا للاتفاق، وكذلك العالم بأجمعه واقع في يد القبضة الإلهية، وما ومن شيء إلا وهو مقدر ومفروض من الحكمة الإلهية، أو كما يعبر «كريسيبوس» عـن ذلك بجعل كل شيء يتم بالقدر وما من شيء إلا وله علة حتى تنتهى إلى علة العلـل وهـو مبدأها الأول الإله، ويضرب لنا مثالاً بحركة دوران الأسطوانة لا يكون محكوماً فقط بالدفعة المعطاة لها من خارج العلة السابقة، ولكنه يكون محكوماً أيضا بطبيعة الشكل الأسطواني ذاته .
وهذه العلة الأخيرة، التي تستقر في الفاعل ذاته، هي العلة الكاملة والأساسية. والقدر يكشف فقط عن أن هذه العلة لا تحدث مطلقا دون عون من علل ثانوية والتي هي العلة السابقة» والحقيقة أن كريسيبوس عندما ميز بين العلل الأصلية والعلل المساعدة أراد أن يجعل من المعلول أيا كان، يكتسب معلوليتهُ أنطولوجياً، أي كونه من حيث المبدأ معلولاً لعلة أصلية، التي يعني بها القدر، إلا أن هذه المعلولية لا يمكن أن تكون قابلة للتحقق الفعلي الفيزيقي، إلا إذا استجدت علل فيزيقيّة مساعدة، تؤثر في المعلول على نحو مباشر، فحدث التأثير فيه.
وهذا يؤسس لإتاحة ضرب من الحرية الإنسانية داخل عالم الضرورة القدرية. وإن كان لا بد من تحديد الفارق بين العلة الأنطولوجية، والعلة الفيزيقية، فالأولى هي التي تحدد المجال الوجودي الذي تتحرك فيه الثانية، ويتبين أن الاصطلاح الأساس لقانون العلية في الفيزيقا الرواقية هو القدر الذي صار تحديداً في أعمال «كريسيبوس» مرادفا للعلية. وأن نظرية العلل الاصلية والثانوية التي قال بها كريسيبوس هي نفسها نظرية الكسب الاشعريَّة التي ترى أن الله هو خالق الفعل الإنساني « علة أصلية»، ويقف دور الإنسان عند كسب هذا الفعل» علة ثانوية». فالأشاعرة ترى أن الأفعال مُقدرة منذ الأزل بشكل مطلق، ولا يترتب على العبد سوى اكتساب صفة الفعل، وهي جزء من نصيبه الأخلاقي. بمعنى آخر، ينبغي للإنسان التكيف مع الأحداث الخارجية، إذ تكون قدرته غير مؤثرة بمعزل عن إرادة الله العليا. وفي هذه النظرية، يتبع أن كل فعل إنساني يخضع لحكم القدر، إذ تحدث الأشياء بشكل عام وفقاً لمسار محدد مُسبقاً ومقدر لها، وسوف تحدث بالضرورة سواء قام الإنسان بالتصرف أو لم يفعل. وهذه هي عينها الجبريّة الرواقيَّة.