محمد غازي الأخرس
هكذا أنا، ما إنْ أضع الـ"إير بود" في أذني حتى يسرقني شجنُ القلوب المكلومة وتسحرني البلاغة المتوارثة، والحكمة التي تختصر خبرة الإنسان إزاء القضايا الوجوديَّة. أما الأداء المؤثر فلا يصمد أمامه إلا الذين جبلت قلوبهم من حجر. أجل، بين يومٍ وآخر أمارس هذا الشغف، فأسمع ما يجود به اليوتيوب من أحزانٍ عراقيَّة، فتزدحمُ الأفكار في رأسي كازدحام الدموع في عيني، فأدوّن فكرة ما هنا أو ملاحظة هناك، على أمل أنْ أعودَ لها لاحقاً. بهذا الدأب وجدتني أغرق، قبل أيامٍ، في لطم الشاعرات فاستوقفتني إحداهنَّ، وهي تصفُ نفسها الحائرة بعد العودة من طقوس الدفن، فتقول: دفنت أهلي واجيت اليوم حيرانه.. نوبه أكوم، نوبه اكعد نوبه الحك الدفانه، دفنت أهلي واجيت، فترد المعزيات المكلومات: اليوم حيرانه. في خضم تأثري، خطر لي أنَّ الحيرة المعنيَّة وجوديَّة وتستبطن سؤالاً عن معنى الفقد، ولماذا كتب الفناء على الإنسان، لماذا ندفنُ يومياً أحبتنا في المقابر ثم نعودُ لوحدنا حائرين؟ لماذا كتب الله علينا هذا العذاب؟ سؤالٌ أزليٌّ رافقنا منذ آلاف السنين، وكانت تساءلت حوله عجوز طيبة في تصوير شهير في اليوتيوب، كانت العجوز قد فقدت أختها أم باسم فراحت تتساءل عن الحكمة من الخلق والقضاء بالفناء: ليش خلقنا، ليش ما خلاها سمه وماي وأرض، علمود لا البشريَّة تموت وذاك يدك ويلطم، وذاك الآخر يموت وندك ونلطم، وبعدين احنه وراه نموت وندك ونلطم، شنو السبب؟ سؤال لا علاقة له بالإيمان الفطري قدر ما هو متولدٌ من ألم فراق الأحبة، ومن ثم هو رعبٌ من الفناء المكتوب علينا.
أول من نقل لنا هذه الفكرة هو جلجامش الذي بكى صاحبه بسؤالٍ هو جوابٌ في جوهره. فعندما أبدى جزعه على فناء رفيقه أنكيدو وسألوه عن تغير حاله أجاب: "كيف لي أنْ أبقى صامتاً؟ كيف لي أنْ أبقى هادئاً؟ صديقي الذي أحببته استحال إلى تراب، هل لي ألا أكون مثله؟ وأصرع أيضاً ولا أستطيع النهوض؟".
خلال آلاف السنين، تكرر السؤال، الذي هو جوابٌ، بألف شكلٍ وشكل، بالشعر، بالنعي، بالغناء، بالتفلسف العقلي، بالرسم، بالتدين والعرفان. التمسنا الخرافة بحثاً عن جواب، وطرقنا باب الفنون والآداب للعثور على حلٍ للأحجية، لكنْ من دون جدوى.
هذا هو عمر الخيام يتساءل مثل العجوز في اليوتيوب: وجام يروق العقل صنعا ورقة.. ويهفو إليه القلب من شدة الحب.. تفنن خزّاف الوجود بصنعه.. ويكسره من بعد ذاك على الترب؟ وذاك هو الجواهري يبكي أم فرات: قدْ يقتُل الحُزنُ من أحبابهُ بَعُدوا.. عنه فكيفَ بمن أحبابُهُ فُقِدوا..
تَجري على رسلها الدنيا ويتبَعُها.. رأي بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد.. أعيا الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهمُ.. ماذا يخِّبي لهم في دَفَّتيهِ غد. ومن هذا إلى ذاك وصولاً إلى كاظم إسماعيل كاطع الذي يسأل سؤال الكوالة نفسها وهو يدفن ابنه حيدر: دفنته وجيت.. رحنه اثنينه للمكبرة.. ولوحدي رديت.. رجع بـس الدمع وياي.. اخذني وجابني للبيت... قصيدة كان غناها كريم منصور على العود أيام كان عوده يختصر أحزاننا ومخاوفنا من القبور. ومن ثم، فإنَّ الأغنية هذه تختلف تماماً عن "دفنت أهلي واجيت اليوم حيرانه"، التي حولها أحد مطربي هذه الأيام إلى ردحة تردح في الملاهي، بينما هي في الأصل سؤالٌ وجوديٌّ يترددُ في طريق العودة من المقابر، حيث النفوس حائرة من مصيرها الحتمي.. ويا عجبي.