أزمة عقلانيَّة

آراء 2023/12/25
...

ساطع راجي

الديمقراطية في البداية والنهاية تعني الاحتكام إلى الأرقام، وهذه قضية كريهة لشعوبنا ولحكامنا لأن الحق في موروثنا لا علاقة له بالعدد، وقد يكون هذا واقعيا في العلوم لكن ليس كذلك في السياسة غالبا، ولأن نظام حكمنا ديمقراطي، صار لزاما على مجتمعنا احترام الارقام وعلى مؤسساتنا الالتزام بها، والأرقام قبل كل شيء هي المقياس الحاسم الذي لا تغطيها البلاغة، وأي محاولة للتهرب من سلطة الأرقام تدخل المجتمع في حالة اللاعقل والفوضى وبالتالي الخروج من التاريخ أو الغطس في مستنقعاته.
إن درجات النجاح والسقوط في الامتحانات المدرسية يجب ان تكون واضحة ونهائية وكذلك معدلات القبول في الكليات، على اعتبار أن تحديد درجة ما للنجاح وللقبول في تخصص دراسي تعبر عن مستوى من الذكاء والاجتهاد الشخصيين وكل ما عدا ذلك تنازلات فوضوية، والأمر نفسه في الانتخابات.
قبيل نهاية العام الدراسي الأخير تعهدت وزارة التربية بعدم وجود دور ثالث، لكنها في النهاية منحت دورا ثالثا للراسبين في امتحانات الدورين الاول والثاني وأسمته «دور ثاني تكميلي» وهي تعتقد أنها بذلك أوفت بالتزامها بعدم اللجوء إلى الدور الثالث، الذي صار مقامرة تربوية وعلمية قد تأتي وقد لا تأتي في لعب على اعصاب الطلبة وأهاليهم، وترسيخا لرفض المقاييس والاعتماد على ضربات الحظ.
من الواضح أن الوزارة فنيا وعلميا غير مقتنعة ببدعة الدور الثالث، لكن الضغوط السياسية تدفعها إلى هذه المنحة، والأفضل حلًا للإشكالات وقطعا لطرق الابتزاز أن تقرَّ الوزارة دورا ثالثا ورابعا وخامسا أو أكثر لتنقذ نفسها والحكومة من تهمة الخضوع لضغوط النواب، ولتحفظ للأرقام معانيها ولا تضطر للاستعانة بالفذلكات الكلامية.
الارباك في مجالات التعليم والعلم وهي نفسها في العملية الديمقراطية، التي تشرعن النظام السياسي، فمعادلات الانتخابات معقدة، ومعادلات صناعة السلطة غير مفهومة وغير مقنعة وهو ما يؤدي للعزوف عن المشاركة في الانتخابات وتدني أعداد المصوتين، ولتلافي هذا الوضع المحرج صار الاسهل اللجوء إلى إعادة تعريف نسبة المشاركة لتكون أعداد المصوتين من بين الناخبين، الذين حدثوا بطاقاتهم الانتخابية وليس عدد المصوتين من بين الذين يحق لهم التصويت، هذا تلاعب بسيط، يراد منه أن يحفظ للنظام هيبته، لتصبح الـ26 بالمئة 41 بالمئة، ومثلما يحصل مع التلاميذ الكسالى، يمكن اعتبار الـ41 بالمئة من الناخبين 50 بالمئة وهكذا ينجح كل شيء.
اعتماد هذا المنهج القائم على التلاعب الكلامي بالأرقام يمكن أن ينسف أي مشكلة، بدلا من حلها ويمكن أن يؤدي ايضا إلى نسف الزمن وبالتالي الغوص في مشكلات تاريخية والتعامل معها كمشكلات آنية، لأن الزمن مجرد أرقام لا نحترمها.
نحن، مجتمعا وحكاما، نكره الأرقام الواضحة الدقيقة، لأنها تكشف بسهولة فضائحية سقوطنا في الامتحانات، ونصر على رفضها، حتى لو تنازلنا بذلك عن أهم أدوات الانسان في الحكم على الأشياء والاحداث.