الفساد الأكاديمي ومأسسة الجهل المعرفي

آراء 2023/12/25
...







 ثامر عباس

كنا في موضوع سابق قد طرحنا قضية (الانحطاط) في المستوى العلمي الذي تسببت به – ولا تزال - الجامعات الأهلية، جراء الفوضى في اختيار وتفضيل الطلبة لأنواع التخصصات العلمية والإنسانية المرغوبة، دون الأخذ بنظر الاعتبار مستوى نتائجهم الامتحانية (الدرجات) الفعلية – وليست الإضافية - التي تحصّلوا عليها في الاختبارات العامة من جهة، والتسيب في مراعاة الشروط والضوابط التي أفضت بالتعليم الجامعي (الأهلي) إلى مجرد مؤسسة شكلية لمنح الشهادات (العليا) لأولئك الباحثين عن الارتزاق الوظيفي والتبجح الاستعراضي من جهة أخرى.
واليوم نعود، مرة أخرى، لطرح قضية مرتبطة بالأولى ومتمخضة عنها ومترتبة عليها، نعتقد أنها لا تقل عن سابقتها خطورة – ان لم تكن أخطر - من منظور العواقب الناجمة عنها حاضرًا والمتوقع حصولها مستقبلًا في المضامير العلمية والفكرية والحضارية، ناهيك عن المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. وهي تلك التي ترتبط بآليات (تدوير) وإعادة تكوين أصحاب الشهادات العليا (الماجستير والدكتوراه) ممن يتسمون بتدني مستوايتهم العلمية وتخلف حصيلتهم المعرفية وتردي عدتهم اللغوية، هذا بالإضافة إلى تجاوز اعتبارهم (أساتذة) جامعيين يعول عليهم تربية الأجيال الجديدة من الطلبة حديثي العهد بالأفكار والنظريات والمناهج الحديثة، رغم ثبوت فشلهم وتأكيد عجزهم في تخطي مواريث أنساق ثقافاتهم الفرعية وأنماط مرجعياتهم الأولية.
ولما كانت عبارة (الفساد الأكاديمي) تبدو غريبة بعض الشيء وغير مألوفة التداول في متون الأدب الصحفي والإعلامي، كما ألفنا التعاطي مع عبارات (الفساد السياسي) و(الفساد المالي) و(الفساد الإداري) و(الفساد الأخلاقي).. الخ. إلاّ أنها باتت مفردة مناسبة ومعبرة عن واقع التعليم الأهلي الجامعي في العراق، من حيث واقعية وصفها ودقة مدلولها فيما آلت إليه مستويات استشراء الفساد في هذا المضمار الحيوي والخطير. ففي الوقت الذي لم تكتفِ فيه جراثيم هذا الوباء من غزو ميادين السياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع والدين، وإنما طالت وتجاسرت على اقتحام حصون العلم والتعليم والمعرفة والثقافة والوعي كذلك، بحيث استحالت وظيفة هذه الجامعات/ الشركات إلى وسيلة فاعلة من وسائل (مأسسة) الترهل الفكري والجهل المعرفي في الأوساط الجامعية والأكاديمية على نحو لافت.
ولعل ما يشير إلى خطورة هذه الظاهرة المدمرة، كون عواقبها لا تقتصر فقط على (تخريج) جيوش من الطلبة (الأميين) الذين يفتقرون لأف باء المعارف الاجتماعية والإنسانية الحديثة فحسب، وإنما – وهنا مكمن الخطورة بنظرنا – المساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج جمهور أكاديمي (جاهل) لا يني حجمه يتسع ويتضخم على حساب نوعيته، ممن حصلوا على شهاداتهم (العليا) بطرق ملتوية وأساليب مريبة؛ سواء عن طريق (شراء) الأطروحات الجامعية الجاهزة من المكاتب التجارية المتخصصة في هذا المجال، أو عبر سبل (انتحالها) و(سرقتها) من منصات التواصل الاجتماعي التي لا تبخل مواقعها العديدة والمتنوعة في تقديم كل ما يرغبه الطالب ويشتهيه من بحوث ودراسات في شتى الميادين والمجالات.
وبضوء ما تقدم، لم يعد خافيًا على أحد حجم وطبيعة الكوارث والفواجع التي باتت نذرها تلوح في أفق المستقبل الحضاري للعراق، جراء الدور التخريبي، الذي لا تفتأ تسهيلات ومغريات التعليم (الأهلي العالي) تمارسها في إطار إشاعة الجهل العلمي وتعميم الأمية المعرفية، ليس فقط على صعيد رفد المؤسسات البيداغوجية الرسمية/ الحكومية بنماذج من حملة الشهادات الجامعية، ممن لا هم لهم سوى الحصول على وظيفة مجزية أو ارتقاء منصب مغرٍ فحسب، بل وكذلك على مستوى بيوتات (جامعات) التجهيل والتضليل الأهلية، لا سيما في مجال شرعنة ظاهرة تدوير (نفايات) وإعادة إنتاج (أساتذة) لا تعدو حصيلتهم من العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية والمناهج التحليلية، سوى القشور من الأفكار المعلبة والفتات من النظريات المبتسرة.