الاقتصاد السياسي لاستقلاليَّة البنك المركزي

آراء 2023/12/26
...







 د. حامد رحيم

وسط هذا التوصيف ما الداعي لاستقلالية البنك المركزي وما المردود في ذلك؟ لا شك أن طبيعة الحكومات والتشكيلات السياسية الفعالة تبحث عن منجزات تقنع بها الجمهور والاقتصاد يمثل الأرض الرخوة في تحقيق أهدافها السياسية لذلك تقدم القوى السياسية المهيمنة على الحكومة على تسويق منجزات اقتصادية في المواسم الانتخابية وغيرها، وهو ما يعرف في أدبيات الاقتصاد السياسي (بالدور السياسي للنشاط الاقتصادي)، خفض الضرائب مثلا، الوعود بالضمان الصحي، تقديم اعانات اجتماعية وغيرها الكثير، والتحدي يكمن في اغلب الأحيان هو إيجاد الحكومة مصادر تمويل لكل تلك البرامج، وهنا تكمن نقطة القوة في ابتكار فكرة الاستقلالية

لم تكن التحولات الاقتصاديَّة والابتكارات على صعيد الفكر والسياسات عبثيَّة، بل كانت (أغلبها) ردود أفعال لحوادث مرت وسببت ارهاصات أو مشكلات رصدها المهتمون لتبتكر على أثرها الحلول والبدائل، وعلى طول المسيرة الاقتصادية صارت التحولات الاقتصادية مثل كرة الثلج تتدحرج وتكبر حتى وصل العالم إلى ما عليه اليوم من منظمات دوليَّة للتمويل والتجارة وشركات عابرة للحدود واتفاقيات على صعيد الطاقة البيئيّة وادوار اقتصادية للحكومات وغيرها الكثير.

ولنرصد هنا تحولا مهما على مستوى السياسات الاقتصادية متمثلا بحصول البنوك المركزية على الاستقلالية بعد أن كانت تحت تأثير الحكومات (السلطة التنفيذية) وسياساتها النقدية تظهر وكأنها تابعة للسياسة المالية الحكومية، والدعوة للاستقلالية ليست حديثة بل ظهرت مع بواكير ظهور البنوك المركزية كمؤسسات اقتصادية فاعلة فعند أول بنك مركزي الذي تأسس في أمستردام عام 1609م تنامى دور تلك المؤسسات في أوروبا خلال القرن السابع عشر والثامن عشر وصارت الدعوات مبكرة لفكرة الاستقلالية، فينسب للاقتصادي (ديفيد ريكاردو) قوله: «لا يمكن الاطمئنان إلى الحكومة في السيطرة على اصدار النقود الورقية» باعتبار أن تلك المهمة من اهم وظائف البنوك المركزية، وظلت البنوك متفاوتة في استقلاليتها ويشار دائما إلى البنك المركزي الألماني مثالا متقدما في ذلك، لكن الاعتمادية الرسمية للاستقلالية كانت بعد إقرار معاهدة ماستريخت عام 1992م اذ فرضت على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي منح البنوك المركزية الاستقلالية عن الحكومات، ناهيك عن منح البنك المركزي الأوروبي الاستقلالية في وضع السياسية النقدية للاتحاد.

يأتي هنا دور التساؤل ما المقصود بالاستقلالية؟ ببساط إنها قدرة البنك المركزي على وضع السياسية النقدية المناسبة وتغييرها عند الحاجة من دون وجود ضغوط من جهات أخرى تؤثر في مسارات اتخاذ القرارات في البنك المركزي.

ولها مؤشرات وهي مركزية تحقيق هدف الاستقرار في المعدل العام للأسعار ومدى التزام البنك بتمويل عجز الموازنة العامة الحكومية ومدى استقلالية البنك المركزي ماليا وطبيعة التمثيل الحكومي في قرارات البنك المركزي وآليّة تعيين وعزل المحافظ. 

إنّ واقع حال هذه المتغيرات يبعد أو يقرب البنك المركزي من الاستقلالية.

وسط هذا التوصيف ما الداعي لاستقلالية البنك المركزي وما المردود في ذلك؟

لا شك أن طبيعة الحكومات والتشكيلات السياسية الفعالة تبحث عن منجزات تقنع بها الجمهور والاقتصاد يمثل الأرض الرخوة في تحقيق أهدافها السياسية لذلك تقدم القوى السياسية المهيمنة على الحكومة على تسويق منجزات اقتصادية في المواسم الانتخابية وغيرها، وهو ما يعرف في أدبيات الاقتصاد السياسي (بالدور السياسي للنشاط الاقتصادي)، خفض الضرائب مثلا، الوعود بالضمان الصحي، تقديم اعانات اجتماعية وغيرها الكثير، والتحدي يكمن في اغلب الأحيان هو إيجاد الحكومة مصادر تمويل لكل تلك البرامج، وهنا تكمن نقطة القوة في ابتكار فكرة الاستقلالية، فالبنك المركزي هو المسؤول عن اصدار النقد والمتحكم بعرض النقد وقد يقدم على سياسات نقديّة متشددة عند التوقعات التضخمية وكل تلك العوامل هي محددة للنمو الاقتصادي وهذه نقاط تقاطع بين الحكومة والبنك، فالهيمنة الحكومية قد تحجم كل تلك الأدوار، ويقود ذلك إلى مشكلات اقتصادية، بمعنى أن الاستقلالية هي عملية سحب ورقة مناورة وتحكم من يد الحكومة لدفعها نحو سياسات وإجراءات (صعبة) تثبت بها الجدارة في الإدارة والقيادة بدل الحلول (السهلة) غير الكفوءة عبر تسخير إمكانات البنك المركزي لأهدافها السياسية.   

في العراق المؤشرات غير مستقرة بالنسبة لعلاقة الحكومة بالبنك المركزي المستقل حسب قانونه، والذي يعاني بذات الوقت من تدخلات واضحة ومؤثرة في عمله النقدي، وهذا التأثير له مساران الأول غير مباشر ولنسميه (مزاحمة) فرضه الاختلال الهيكلي للنشاط الاقتصادي فأصبح البنك المركزي في تحديده إلى مستويات عرض النقد كأنه متلقٍ لما تقدم عليه الحكومة من أنفاق، أي أن عرض النقد اصبح متغيرا تابعا لحجم الانفاق الحكومي، اما التأثير المباشر فيتمثل في التدخلات وفرض الارادات (كما يبدو) في قضية تحديد المثبت الاسمي للسياسة النقديّة (سعر الصرف)، إذ تعرض هذا السعر إلى تغيرات نتيجة لعجز الموازنة المخطط ولعوامل سياسية تخص التنافس السياسي بين القوى المهيمنة على المشهد، وصار البنك متلقيا للأحداث، ومن جانب آخر، هل أن منصب المحافظ والدوائر العامة فيه خاضعة للمعادلة السياسية (المحاصصة)؟، وهذا يعني أن ركنا أساسيا في الاستقلالية يعد قلقاً جداً خصوصاً في الآونة الأخيرة في اثر التحولات في علاقة البنك بالخزانة الامريكية ومحاولة تحجيم بعض المصارف وتصريحات نسبت لمحافظ البنك المركزي أشار فيها إلى تهريب الدولار وغيرها مما تصاعد الضغط الداخلي (لإقالة) المحافظ.  

النتيجة أنَّ الاستقلالية في مستويات متدنية لوجود تدخلات لأغراض سياسية في عمل السياسة النقدية فضلا عن ضغوط الإقالة لمحافظ البنك المركزي مما يعني أن العلاقة بين المالية العامة بالنقديَّة ليست علاقة تكاملية بل علاقة هيمنة.