وارد بدر السالم
لوحة واحدة، شغلت القاعة الصغيرة لمؤسسة رؤيا الفنيّة- شارع المتنبي للفنان مكي عمران. وقد يبدو هذا من غريب العروض التشكيليَّة، أن يوصل الفنان للمتلقي المتخصص وغير المتخصص أفكارا متداخلة وعميقة في لوحة واحدة لا غير، وقد أخذت مساحة واسعة من المكان طولياً، حتى امتدت منحنية إلى سقف القاعة، فرسمت بتلقائيّة وعفوية الرقم (6) وهو الرقم الذي يسبق اليوم السابع من أيام الخلق التي نتداولها في الانثروبولوجيا الدينيّة، كونه يوم الاكتمال والنضج، ممهداً للكينونة النهائيّة، التي استوت على كونٍ شاسع وواسع، متعدد زوايا النظر في آفاقه اللانهائيّة.
العنوان الذي جاء به المعرض (عوالم متداخلة) وهو عرض تاريخي طويل المدى زمنياً، مرّ على الحضارات البشريّة التي أسّست لكياناتها الشخصيّة، عبر الزمن. بدءاً من الرسومات الكهفية التي بصم الإنسان الأول بأصابعه على جدران الكهوف ليؤكد وجوده الفرديّ والجماعي ويشير إلى الطبيعة المحيطة به، تتداخل كلها بطريقة تراكم الطبقات والألوان والكولاجات والحروف القديمة، لنفهم بشكل ما، أن اللوحة الوحيدة هي مجموعة اِرهاصات فنيّة في احتواء النشوء الإنساني والكوني، بدأت من عصور ما قبل التاريخ، من عصر الكهوف الذي شكّل أرضية مناسبة لتداخل العوالم التالية بكل ما فيها من حروب وقسوة وأمراض وأوبئة وتداعيات.
أمام لوحة واحدة بسعة الأكوان المتعاقبة عليها، يمكن أن نرصد عناصرها المتداخلة في تداعيات حقيقية وخياليّة أيضاً، لكنه خيال مكثِف للواقع البشريّ الطويل، بأن يكون على صلة ببعضه. لا ينقطع تماماً، بل يشكل مشهداً كونياً مترامي الأطراف، لهذا برأيي لا يمكن (تقطيع) اللوحة إلى عناصر سرديّة أولية، لأنها ستفقد حرارة الانتماء النفسي والروحي لعوالمها التي تتداخل وتشكل مرأىً واسعاً وكبيراً للإنسانيّة في عذاباتها المشتركة والمتداخلة. وبالتالي فأنّ لوحة واحدة بهذا الحجم الطولي كتدوير للإنسانيَّة التي يراها الفنان بعين الفن بمستوياته المتعددة، عندما تتراكم طبقاته اللونية وحروفه القديمة وإشكالاته المتواترة في مزيج واقعي- خيالي. في إنتاج لوحة واحدة لها هذا المظهر الشكليّ، المتكون من جزر متقاربة ومتباعدة، وكيانات تاريخيّة قديمة ومعاصرة.
أن تقطيع اللوحة إلى عناصر صغيرة، كلوحات متتالية لا تفي بالغرض الفنيّ، فلا يمكن تحويرها إلى (معرض) بلوحات أكثر، حتى وأن تتبّعت الأشواط الزمنيّة، وتتابعت فيها فواعل الزمن المتتالي، ونعتقد أنها لا تكتمل، كما هي الآن، لذلك يقول الفنان وهو يقدّم عرضه الاستثنائي التجريبي (أحاول في تجربتي في هذه العوالم المتداخلة التعبير عن شغف الانصات إلى تراثنا الإنسانيّ المبكر، لأعيد تشكيل رؤيتي الفنيّة، وفي صياغة بنائية أقرب في تشكيلها إلى طبيعة الجزر المتعددة. والمتفرقة بعدها علامات مختلفة المرجعيات والأصول إلا أنها تشترك في بُعدها الإنساني الواحد) وهذا التقديم هو توثيق للمحيط اللانهائي من العلامات، كما يؤكده الفنان، كأنه طوفان في تلك الجزر المغمورة في الزمن. في محاولة منه لانتشالها من تحت طبقات تاريخيَّة وإظهارها إلى الحياة المعاصرة، بما فيها من التباسات وحِكَم ورؤى
كثيرة. وهذا " الزخم من المفردات والعلامات والأشكال الإنسانية والحيوانيّة والخياليّة المركّبة" هو ثقافة فنيّة توصّل اليها الفنان عبر قراءته لترابية الزمن وتراكبه الدائم في أمكنة كونية متعددة في القارات.
نجد في عموم اللوحة إبصاراً حياً في تداخل العوالم بمرجعياتها المختلفة، في فن الكهوف، فن العصر الحجري، المؤسس لتجليات الإنسان الأول في صراعه مع الطبيعة عبر النقوش والبصمات، ومع عفوية الرسم الذي يكتنفه، إلا أنه ترك وثائق مباشرة لقراءة البُعد الزمني في العالم القديم، لِما فيه من حرارة التوثيق الفني، مع أنه (الفنان القديم) لم يكن يقصد التوثيق، كونه مشغولاً في بُعده الحياتي الواحد، ولأنه لا يرى المستقبل المقبل، بسبب ثقافته المحدودة ووعيه في طبيعة علاقاته مع محيطه، ولم يتقصد أن يترك إلى المستقبل ما نسميه (فناً) قياساً لنظريات الحاضر الفني المتطور، بل كانت مهمته تزيينيّة على الأغلب بالنقوش البدائية، وربما كانت ترسيم شيء من الطقوس والشعائر الدينيّة وتوثيق اصطياد الفرائس التي كان يعتاش عليها. كأنه تدريب فطري على الرسم- التوثيق الذي وصل إلينا عبر آلاف ا لسنوات.
ومع أن عمران يعي كل هذا التشتت الحضاري والكوني إذ (تتداخل العوالم والأزمنة .. يجد المتلقي علامات تعود بمرجعياتها لفن الكهوف وللرسومات الصخرية..) إلا أنّه يغامر في هذه اللوحة المثالية لخوض غمار العالم بكافة معطياته وتجلياته الإنسانيّة، منذ العصر الحجري الأول، حتى عصر الحروب الشّرسة، وما تتركه من قسوة على الوجود الاجتماعي العام كما نعيشه اليوم. لذلك فأن هذه اللوحة غير تقليدية في محتواها وبنائها الفني، فأنها خرجت من صميم الزمن، وبقيت ماثلة فيه. ولا نرى فيها مدرسة فنيّة واحدة، يمكن إنشاء جسور نظرية معها، كما هو المعتاد في رؤية المعارض الفنيّة، بل هي كتاب مفتوح زمنياً، عبر وحداته المشتتة في تناول الأثر الجمالي، مع كل ما يحيط به من اِحباطات قديمة ومعاصرة.