الجيل المقبل في غزّة قد أطلّ
• برانكو مارسيتك
• ترجمة: أنيس الصفار
" الدرس المستقى ليس أنك تستطيع تحقيق الفوز في حرب المدن مع حماية المدنيين، بل الدرس هو أنك لن تستطيع الفوز في حرب المدن ما لم تؤمّن حماية المدنيين"، كانت هذه هي تصريحات وزير الدفاع الأميركي "لويد أوستن" مؤخراً التي تصدرت العناوين البارزة.
مضى أوستن قائلاً: "في قتال مثل هذا يكون السكان المدنيون هم مركز الثقل، وإذا ما دفعتهم إلى ذراعي عدوك فسوف تكون قد استبدلت نصراً تكتيكياً بهزيمة ستراتيجية".
هذه التصريحات التي أدلى بها أوستن مؤخراً يجب أن تبعث صحوة لدى القطاع الأوسع من المسؤولين الإسرائيليين والغربيين والمعلقين الذين لا يزالون مصرين على أنَّ الحلَّ العسكري لمشكلة حماس هو السبيل الوحيد أمام إسرائيل لضمان أمنها على المدى البعيد. يمضي هذا الخط الفكري إلى القول إنَّ التهديد الذي تمثله حماس يعني أنَّ إسرائيل ليس أمامها من خيار سوى الاستمرار في الحرب حتى القضاء على الجماعة مهما تطلب الأمر من وقت ومهما بلغت الكلفة، وإن كانت جسامة أعداد القتلى المدنيين المروعة جراء الحملة العسكرية الإسرائيلية مؤسفة حقاً.. لأنَّ حماس إذا ما سمح لها بأن تبقى فإنها ببساطة سوف تختار لحظة أخرى في المستقبل وتعاود الهجوم، وبذا لن ينعم المواطنون الإسرائيليون بالسلام أبداً.
بيد أنَّ أوستن ليس سوى واحد من أصوات بارزة عدّة ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة لتنبه إلى اختلال هذا المنطق وتذكر العالم بأنَّ الدولة حين تحارب ما تسميه الإرهاب تاركة وراءها مساراً متصلاً من المذابح البشرية فإنَّ النقمة المتولدة ومشاعر المرارة واليأس الناجمة عن ذلك سوف تسفر عن إلهاب سعير المشكلة ذاتها التي تحاربها ولكن بأضعاف مضاعفة.
حين سئل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال "تشارلز براون جونيور" سؤالاً مباشراً: "هل يخشى أن يؤدي ارتفاع أعداد الإصابات بين المدنيين إلى ظهور أعضاء مستقبليين لحماس؟"، ردَّ قائلاً: "نعم.. هذا صحيح وإلى حد بعيد." وقال يعقوب بيري، الرئيس السابق لجهاز الشاباك في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز: "أجل.. في ظرف أربع أو خمس سنوات سوف ترانا نواجه أبناءهم."
في عنوان بارز لعمود نشرته صحيفة هآرتز مؤخراً جاء ما يلي: "إسرائيل تنشئ ضد نفسها جيل الكراهية المقبل". العمود للكاتب "جدعون ليفي" الذي يمضي محذراً قرّاءه فيقول: "انظروا أيَّ كراهية بذرها في قلوب الإسرائيليين هجوم واحد شرس." ثم يدعوهم لتأمل ما الذي يمكن أن تفعله إذن مذبحة أسوأ وطأة وأطول أمداً بحق السكان الفلسطينيين. يقول أب فلسطيني قتل ولده الصغير على يد الجنود الإسرائيليين: "هؤلاء الأطفال لن ينسوا أولئك الجنود أبداً. أنتم إنما تنشئون جيلاً جديداً من المقاومين."
أما وزير الدفاع البريطاني السابق "بن والاس" فقد حذر مؤخراً، في إشارة إلى المتاعب التي شهدتها إيرلندا الشمالية، من أنَّ "القمع يتبعه التطرف"، على حد قوله، وأنَّ "الرد غير المتناسب من جانب الدولة قد يكون خير عامل تجنيد لصالح تلك المنظمات."
بادرت الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة وأنحاء أخرى من العالم منذ الآن لإعلان تأييدها لهذه التحذيرات، وحذر "كرس راي"، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي "أف بي آي"، في الشهر الماضي من أنَّ دعم الولايات المتحدة للحرب الإسرائيلية قد جعل العديد من المنظمات تنادي بمهاجمة الأميركيين والغرب بشكل عام، وقد أدى هذا بالفعل إلى رفع مستوى التهديد بشن هجمات داخل الولايات المتحدة.
يأتي ما سبق على رأس ما خلصت إليه الجهات الاستشارية ووكالات الاستخبارات والوكالات الحكومية الأميركية المختلفة التي طالما حذرت من وجود تهديدات محققة من قبل الجماعات المتشددة بسبب الدعم الأميركي للحرب. وكالتا الاستخبارات الألمانية والبريطانية كلتاهما أطلقت أجراس التحذير بخصوص احتمالات أن تسفر الحرب عن تأجج التطرف المسلح، واستشهدت بتهديدات محددة أطلقتها الجماعات الجهادية والمتعاطفون معها.
ثمة سبب وجيه لتصديق ما سبق. ففي وقت سابق من هذا الشهر أقدم فرنسي عمره 26 عاماً على قتل شخص وإصابة اثنين آخرين حين هاجمهم بسكين ومطرقة في وسط باريس، وبعد ذلك أخبر الشرطة أنه يشعر بالارتياع وهو يرى كل هؤلاء المسلمين يموتون في أفغانستان وفلسطين وشعوره بأنَّ فرنسا لها يد في ما يحدث في غزة. بعد يوم من ذلك دعا حزب الله إلى ما أسماه "يوم غضب" رداً على الانفجار في المستشفى الأهلي في 17 تشرين الأول، فما كان إلا أن ألقى شخصان قنابل حارقة على كنيس يهودي في مدينة برلين. وفي الأسبوع الماضي اعتقلت السلطات الألمانية أشخاصاً يشتبه بأنهم أعضاء في حركة حماس وزعمت أنهم مكلفون بمهمة سحب أسلحة من مستودع سري لمهاجمة مواقع يهودية في أوروبا.
لو أخذنا تونس كطليعة نستدل بها على ما سيتبع ذلك من أحداث في سائر المنطقة لرأينا أنَّ سلسلة من عمليات المسح الاستطلاعية للعالم العربي التي انطلقت من هناك قد خلصت إلى أنَّ نسبة التونسيين الذين صاروا يفضلون خيار المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي قد وثبت وثبة شاسعة خلال الأسابيع الثلاثة التي أعقبت هجوم حماس في 7 تشرين الأول والهجوم العسكري الإسرائيلي الذي تلاه. وبالفعل تعرضت القوات الأميركية المتواجدة في العراق وسوريا لما مجموعه 97 هجوماً منذ 7 تشرين الأول، في حين شنَّ الثوار الحوثيون المسيطرون على معظم أجزاء اليمن سلسلة هجمات ناجحة على السفن التجارية في البحر الأحمر مستفزين الولايات المتحدة بذلك على الرد بضربات عسكرية.
في الوقت نفسه عززت الحرب مكانة حماس، رغم كل الدمار البشري الناجم عن الحرب التي تسبب بها هجوم الحركة في شهر تشرين الأول، أو ربما بفضل ذلك الدمار. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ شعبية الحركة ارتفعت في غزة، وكذلك في الضفة الغربية الأوسع بشكل خاص، حيث تعزز موقع حماس بفضل أحداث الأشهر القليلة الماضية وارتفع الدعم الشعبي لها بأكثر من 30 نقطة.
من ناحية أخرى تراجع وضع القوى الأكثر اعتدالاً بعد أن عبرت الغالبية الساحقة من الفلسطينيين عن رغبتها باستقالة الرئيس محمود عباس بينما حبذت أغلبية قاربت الثلثين حل السلطة الفلسطينية التي يحكمها.
أي مما سبق يجب ألا يكون مفاجئاً أو مثار جدل، فحتى حملة الولايات المتحدة المتواصلة منذ أكثر من عقدين لمحاولة إزالة التشدد و"الإرهاب" من على وجه الأرض بالنار والقنابل قد أثبتت ما لهذه الستراتيجية بطبيعتها من مردودات عكسية. إذ إنَّ المتشددين، ومن يوصفون بالإرهابيين المحليين بحسب تعبير الكاتب، يلجؤون دائماً إلى تسليط الضوء على العمليات العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى في الشرق الأوسط على مر السنين للتأكيد على الأسباب التي تدفعهم إلى ارتكاب العنف. فبعد مرور عقد أو أكثر على اغتيال أسامة بن لادن واغتيال واعتقال جماعة أخرى من مخططي هجوم 11 أيلول وزعماء الإرهاب، بالإضافة إلى تحييد جماعات إرهابية مثل "داعش"، لا تزال القوات الأميركية تشتبك مع الإرهابيين بمعارك برية في تسع دول على الأقل كما تسهم في التدريب على أساليب مكافحة الإرهاب في ما مجموعه 73 بلداً.
في الوقت نفسه تصاعدت الهجمات الإرهابية في أفريقيا تصاعداً انفجارياً بلغ نسبة 75 ألفاً بالمئة منذ أن ابتدأت الولايات المتحدة تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب هناك قبل عقدين من الزمن، كما ارتفع عدد الجماعات الإرهابية العابرة للحدود هناك من صفر، يوم وقوع هجمات 11 أيلول، إلى العشرات في وقت أعلن فيه مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية "ويست بوينت" أنَّ قارة أفريقيا قد أصبحت المركز النشط الجديد عالمياً للعنف الجهادي منذ صيف 2021.
كل ما ذكر يجب أن يثير أقصى درجات الشك في ادعاءات القيادة الإسرائيلية بأنَّ تصفية حفنة من كبار قياديي حماس والقضاء على مقاتليها، حتى لو كان الثمن هو التسبب بأقصى درجات المعاناة الإنسانية، سوف ينهي مشكلاتها الأمنية، لأنَّ جميع الأدلة على أرض الواقع تشير بوضوح إلى عكس هذا. معنى ذلك أنَّ الحل الحقيقي الوحيد يكمن في التسوية السياسية طويلة الأمد التي يرفضها المسؤولون الإسرائيليون ويفخر نتانياهو الآن بأنه قد سدَّ الطريق أمامها لعقود مقبلة. بخلاف ذلك فإنَّ إسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة قد يتمكنون من تدمير كيان اسمه "حماس" ليعودوا لمواجهة نفس المشكلة بالضبط على يد جماعة أو جماعات تحمل أسماء مختلفة، ولكنها في الصميم تضمر نفس النوايا العنيفة بالضبط.
• عن مجلة "رسبونسبل ستيتكرافت"