الانثروبولوجيا في العراق بين التأسيس المنهجي والارتباك الناقل

آراء 2023/12/28
...







 د.عبدالواحد مشعل

لا شك أن الإنسان بصفته كائنا منتجا للمعرفة على وفق السياق الثقافي الذي يتفاعل فيه، وعلى حسب النظرية الانثروبولوجية التطورية التي انبثقت في منتصف القرن التاسع عشر على يد رواد كبار أمثال لويس مورجان وهنري مين ومكلينان وباخوفن (1861 - 1869) التي صورت تطور الحياة البشرية على وفق مراحل تطورية ارتقائية، يتطور خلالها الإنسان خلالها من البسيط إلى العقد، يرافقه انتاج معرفي يفسّرعملية التطور نفسه، فما ذهب إليه مورجان بتقسيم سلم التطور إلى ثلاث مراحل تبدأ بالوحشية، ثم ترتقي إلى البربرية ثم إلى الحضارة، متصورا ذلك على وفق ثلاثة مسارات أساسية، أولها المسار الاقتصادي(التكنولوجي)، وثانيها المسار الاجتماعي، وهو ارتقاء الحياة الاجتماعية من الإباحية الجنسية إلى حياة الرهط وظهور الزواج الجماعي، ثم الارتقاء إلى زمن ظهور العائلة ثم إلى ظهور العشيرة والقبيلة، ثم ظهور نماذج أكثر رقيا من الأنواع السابقة، هي المجتمع التجاري ضمن عملية تبادل ترمي إلى صيرورة الحياة المعيشية والارتقاء إلى مرحلة الدولة، وثالثهما المسار السياسي، إذ ظهرت الزعامة السياسية وإدارة شؤون الجماعة في المجالات المختلفة ببلورة نظم سياسية مجزأة لا تكون دولة إلى مرحلة الامبرطورية، ثم ظهور مرحلة العقد الاجتماي، الذي ولدت به دولة ذات نظم اكثر رقيًّا متمثلة بالدولة الحديثة وبتدرجاتها القومية، وصولا إلى تكوين الدولة المدنية، وكل ذلك تم 

على وفق زيادة معرفة في المجالات المختلفة في خط تطوري على وفق الحاجة الملحة للإنسان في كل مرحلة يصل إليها، وهذا يشير إلى قدرة العقل البشري يسهم في تطوير الحياة الإنسانية بطريقة ابتكارية، إي ينتجها العقل الانساني نفسه لحل قضية تحتاج إلى حل، كي تسير الحياة بطريقة تطورية 

ارتقائية. 

ولم تكن المدرسة العراقية بشكل عام ما هي الا (مقلدة) لهذا التصور التطوري، الذي واجه موجة عامة من الانتقادات من المدرسة الوظيفية مع مطلع القرن العشرين، ولاسيما من الانثروبولوجيين والاجتماعيين على حد سواء، الا أن الاشكالية التي اعترضت كل ذلك ان الفكر التطوري في علم الاجتماع عاد الينا متخفيا في الفكر الوظيفي إبان حقبة الخمسينيات. 

اما في حقل الانثروبولوجي في العراق فقد تمكن العلامة الدكتور مصطفى شاكر سليم أن يترجم أصول المدرسة الانثروبولوجية البريطانية بدراسات منهجية رصينة، أبرزها دراسته عن (الجبايش) في جنوبي العراق، وتمكن العلامة الدكتور علاء الدين جاسم البياتي أن يجسد ما اجتهد به عالم الانثروبولوجيا المصري أحمد ابو زيد ويقيم دراسته العلمية عن الراشدية ثم دراسته عن شثاثة في غرب العراق وأن يضيف إلى الدراسات الريفية الحضرية الانثروبولوجية توجها وظيفيا توتجت بنجاح علمي في البيئة العراقية، كما نجح الدكتور ابراهيم الحيدري في دراسته عن الشخصية العراقية والظواهر الطقوسية المرتبطة به، أن يرسم ملامح الثقافة العراقية ووصف الشخصية باسلوب علمي ومنهجي، كما ساهم باحثون عراقيون بارزون، أمثال العلامة الدكتور قيس النوري أن يبدع في الانثروبوجيا الثقافية، ويقدم اسهامات علمية رصينة رسمت بوضوح خطوط الانثروبوجيا الثقافية على خطى المدرسة الانثروبولوجية الأمريكية، كما كان الدكتور خالد الجابري أن يوظف بدراسته التوجة نحو دراسة البنية الاجتماعية، على وفق ما درسه في جامعة اكسفورد في بريطانيا، باذلا جهودا مميزة في رسم خريطة الدراسة الميدانية، ولاسيما ما يتصل منها بالاقليات الثقافية، وقد كانت جهودهم بحق علما اجتهدوا في ايصال المعرفة الانثروبولوجية إلى طلابهم بشكل واسلوب واضح ومفهوم، متسما بجهد علمي غير مرتبك، اذ نجحوا في ايصال الفكر الانثروبولوجي إلى الجامعات العراقية بطريقة منهجية، اما اليوم فيواجه الانثروبولوجيون تحديات كبيرة، ففي الوقت الذي ترجم فيه الرواد العراقيون -المار ذكرهم- 

وغيرهم من الباحثين اصول الانثروبولوجيا بخطاها التأسيسية، كانت هناك مجموعة من الانثروبولوجيين المتاخرين فسعوا إلى ايجاد تصورات منقولة من مكان وزمان مختلف عن زمان العلماء العراقيين المؤسسين، فبدلا من أن يبدعوا فيها أربكوا حقلها، معتمدين عن حدثنا فلان عن فلان عن أصول الانثروبولوجيا زادت من اشتغالهم في التعليم الجامعي برؤى غامضة ارهقت الطلبة من غياب الرؤية عن افاق الانثربولوجيا، فقد جمعوا معلومات من كتب ومصادر انثروبولوجيا المغرب العربي المتأثر بالمدرسة الفرنسية ذات التوجه التجريدي وبالمصطلحات المستمدة من الفكر الفلسفي، ومشكلة هؤلاء انهم وجدوا انفسهم في حقل لا يستوعبونه بشكل علمي ومنهجي في سياق أصوله التأسيسية، في حين كانت مصادرهم تعتمد اسلوب كتاب المغرب العربي المتأثر بالاسلوب الروماتيكي التجريدي دون أن يفهموا أو يدركوا اصوله مع جهل بظروفه التأسيسية المرتبطة بالثورة الفرنسية ذات المنحى الفكري، والذي يختلف عن المدرسة الانثروبولوجية الانكليزية ذات الاسلوب الميكانيكي -إن صح التعبير- تاركا ذلك آثارا باتت تمثل ازمة وحيرة لدى الطلبة في طريقة صياغة فرضياته ومجالاته التطبيقية، حتى أصبح ليس من السهل الخروج منها الا اذا تمكن الناقل المرتبك الخروج 

من ارتباكه بإدارك اختلاف المكان والزمان والجذر المختلف عن المكان والمكان والجذر في المشرق العربي وبالتحديد العراق.