مفهوم الجماعة الوظيفية ومنهجيات التحليل الإدراكي المُركّب

قضايا عربية ودولية 2023/12/28
...

• جواد علي كسار

أكتب عن عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008م) ليس لأني قرأته مبكراً وأعجبت به، وإن حصل هذا ولا أنكره، بل لأنه الأبرز خبرة بشأن اليهود واليهودية و"إسرائيل" والصهيونية، إبان العقود الأخيرة. وفوق ذلك والأهم منه أنه الأعمق، بما اتسمت به كتاباته من إتقان منهجي، وأطر تنفتح على مرتكزات تحليلية مركبة وفاعلة، انتظمت أغلب كتاباته إن لم يكن جميعها رغم كثرتها، وتخطت الكتب إلى البحوث بل والمقالات أيضاً.

وهذا ما يميّز كتاباته عن كثير ممن سبقه وعاصره بل جميعهم، وتفوّقها عليهم بقدرتها المستمرّة على العطاء، وأنها تقدّم للقارئ والواقع تفسيرات حركية لم تزل نابضة بالثراء والحياة حتى اللحظة.


البداية من أميركا

رغم أصوله الطبقية غير العمالية، إذ هو ينحدر من عائلة تجارية ميسورة، لا ينكر المسيري ميوله إلى اليسار الثوري بل انخراطه أوائل شبابه بالحزب الشيوعي المصري. لذلك عندما وجد نفسه في أميركا طالباً في الدراسات العليا عام 1963م، صار أقرب ما يكون في حياته هناك، إلى اليسار السياسي والفكري، ومن ثمّ تكوّنت اهتماماته المبكرة بالصهيونية و"إسرائيل" ضمن موجة مواجهة الاستعمار، والانخراط بقضايا حركات التحرّر ومدّها في العالم العربي والإسلامي، ومجمل الرقعة الموسومة بالعالم الثالث.

على هذه الخلفية وانطلاقاً منها، كتب في أميركا كتابه الأوّل، الذي أصدره باللغة الإنكليزية عام 1966م، بعنوان "إسرائيل قاعدة للاستعمار الغربي".

عندما استأنف النظر بهذا الكتاب بعد عقود من صدوره، وصفه بأنه معلوماتي لم يتعامل مع القضية الفلسطينية إلا بمنظور سياسي يساري "عالمثالثي"، ولم يستعمل سوى المنهج المعلوماتي، لإثبات أن "إسرائيل" والصهيونية بوصفهما قاعدة الاستعمار الغربي، ارتبطا عضوياً بالاستعمار البريطاني والأميركي وبكيان الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لتحقيق الأهداف الغربية للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين والمنطقة، وفقاً لما هو شائع في المنهج الثوري اليساري (رحلتي الفكرية، المسيري، ص 493).

لكن ما لبث أن تطوّر المسيري فكرياً ومنهجياً، فانعكس ذلك على كتاباته السياسية. فقد ترك النسق المعلوماتي المشبّع بالثورية اليسارية كما يصفه، إلى نسق آخر تحوّل فيه من السياسي إلى المعرفي، وغادر لغة الوقائع والحوادث اليومية المباشرة، إلى الاهتمام بالثوابت المعرفية والستراتيجية.


أسماء في طريق التحوّل

لم يحصل هذا التحوّل فجأةً أو دفعياً من خلال انقلاب نوعي، بل جاء كصيرورة متدرجة عبر معايشة وقراءات، ومن خلال هضم وتمثّل، كان من حلقاتها القراءة الاستيعابية المستبصرة للمجلدات الخمسة ليوميات صاحب أطروحة "الدولة اليهودية" تيودور هرتزل (1860 - 1904م) التي حرّرها روفائيل باتاي (1910 - 1996م) صاحب الكتاب الهجائي المعروف "العقل العربي".

بيدَ أن الأهمّ على مسار هذه الصيرورة والتحوّل التدريجي صوب المعرفية والأطر المنهجية الثابتة والصلبة، هي قراءة أعمال المفكر الفلسطيني الراحل إسماعيل راجي الفاروقي (قُتل غيلة في أميركا عام 1986م). فقد كان للفاروقي كتابان صغيران عن اليهودية والصهيونية أصدرهما أوائل سبعينيات القرن المنصرم، وجد المسيري أن المعالجة فيهما جاءت مختلفة تماماً عن كلّ ما ألفه قبل ذلك من دراسات في هذا الحقل، فقد: "وضّح لي كثيراً من الأبعاد الغامضة التي أخفقت كتب السرد التأريخي في توضيحها"، كما يقول المسيري نصاً (رحلتي الفكرية، ص 494 - 495).

في سياق عملية الصيرورة والنمو والتحوّل، مرّ المسيري على أسماء أخرى تأثّر بها، كان أبرزها على الصعيد الفلسطيني أعمال (حبيب قهوجي وبديعة أمين وأسعد رزوق وأنيس صايغ)؛ إذ كان: "لكتاباتهم أعمق الأثر من حيث توسيع نطاق رؤيتي وتعميقها، وتجاوز النموذج المعلوماتي العقيم"، (المصدر السابق، ص 495).

لكن كملاحظة شخصية استقرائية مباشرة (غير انطباعية) لاحظتُ أن المسيري تجاوز جميع هذه الأسماء وتفوّق عليها في كثافة الإنتاج وصرامة المنهج وثراء النتائج والمعطيات.


أميركا والفردوس الأرضي

كما من المهمّ أن نلحظ أيضاً أن منهجه في الترابط، وممارسة التحليل عبر النماذج المعرفية ومن خلال الأسلوب المركب، وبالارتكاز إلى مفهوم حركي حيّ هو التحيّز؛ قد برزت خمائره الأولى عند كتابة أطروحته للدكتوراه عام 1967م عنوانها (الأعمال النقدية لوليام وردزروث وولت ويتمان.. دراسة في الوجدان التأريخي والوجدان المعادي للتأريخ). بيدَ أن النقلة الكاملة على صعيد بروز جميع خطوط التحوّل منهجياً وفكرياً، ظهرت ناضجة في تقويمه للظاهرة الأميركية. فعند عودته إلى أميركا مرّة أخرى (1975 - 1979م) استقرّت في عقله تماماً قصة النماذج المعرفية كأداة في التحليل (مطلق التحليل السياسي وغيره) وأصبح مفهوم التمييز بين الإنسان التأريخي الدارويني (نسبة إلى تشارلز داروين) والإنسان الطبيعي الروسوي (نسبة إلى جان جاك روسو) واضحاً أشدّ الوضوح؛ كما بات مفهوم "التحيّز" القاضي بإرجاع كلّ أنموذج إلى معاييره الداخلية التي يختص بها، بادياً على أغلب خطوط دراسته للظاهرة الأميركية (عن معنى التحيّز يُنظر: العالم من منظور غربي، المسيري، ص 17).

هكذا وضعتنا هذه الخلاصات أمام كتابه "الفردوس الأرضي.. دراسات وانطباعات عن الحضارة الأميركية الحديثة" 1979م، ليس بصفته كتاباً متميّزاً للمسيري، في تحليل الظاهرة الأميركية وتفكيكها وإعادة تفسيرها وحسب، بل بوصفه أيضاً واحداً من أهمّ القراءات الحيوية الناضجة لهذه الظاهرة، لم يزل يتمتّع بقدرة كبيرة على التفسير العميق.

مما يكشف عنه هذا الكتاب التحليلي ثنائية الإنسان التأريخي الدارويني، فهو يعيش في التأريخ، لكنه يبحث عن المطلق خارج التأريخ، ما أدّى إلى أن تُوقعه هذه الثنائية في حركة دائرية، وتدفعه إلى البحث الدائم عن الفردوسية اللاتأريخية أو الفردوس الأرضي، لكن دون طائل.


الغرب والصهيونية

لم تكن هذه الأزمة خاصة بالإنسان الأميركي وحده أو العالم الرأسمالي دون غيره، بل هي من سمات الحضارات الصناعية في الغرب، وملحقها في "إسرائيل". هكذا حصلت الانعطافة الثانية في عقل المسيري، صوب دراسة "إسرائيل" إنساناً ومجتمعاً وتجربة، لتتحوّل الصهيونية إلى محور الانشغال الفكري والسياسي لدى المسيري، حتى كتب مرّة: "بدأتُ أدرك أن دراسة الصهيونية هي مصيري"، (رحلتي الفكرية، ص 464).

بيدَ أن الأهمّ من ذلك منهجياً وفكرياً، هو دراسته للظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب، بصفتها ظاهرة غربية. وهذا ما يفسّر العلاقة الشديدة للغرب السياسي وحتى الاجتماعي والثقافي بـ"إسرائيل".

لقد قلبَ هذا التفسير الهرم الراكز في أذهاننا رأساً على عقب، إذ المسألة لا تكمن بتأثير "إسرائيل" على الغرب وهيمنتها على عقله وقراره السياسي، بل بالعكس تماماً؛ إذ يتحكّم الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي بـ"إسرائيل"، بوصف الأخيرة مجرّد مثال لـ"الجماعات الوظيفية" التي كوّنها الغرب نفسه، وراح يتقن اللعب بها ستراتيجياً (كصورة لهذا التحليل، يُنظر "دفاع عن الإنسان.. دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة"، المسيري، ص 342 فما بعد).

معنى ذلك ببساطة شديدة أن "إسرائيل" والصهيونية من ورائها، هي حاجة ملحة للغرب السياسي ولمركزيته الحضارية. وهذا ما يفسّر التدافع الغربي العجيب لحماية "إسرائيل" في كلّ مرّة يتهدّدها الخطر، وما وقائع غزّة الحالية وذلك التهافت الذي أبدته عواصم الغرب ورجال القرار السياسي، إلا حجة قاطعة على هذا التفسير. فليست المسألة أن "إسرائيل" لها التأثير الهائل المترسّب في أذهاننا، على عواصم القرار الغربي، بل العكس تماماً، فهذا هو الغرب الذي يتحكّم بـ"إسرائيل" ستراتيجياً، وباليهود ولاسيّما الصهاينة كجماعة وظيفية، لها أدوارها في الإقليم العربي - الإسلامي، وفقاً لستراتيجيات الغرب الكبرى.


انعطافة الباز وهيكل

إبّان مدّة مكوثه الأولى في أميركا (1963 - 1969م) ربطته علاقة زمالة مع السياسي المصري الباز لاحقاً، أسامة الباز (1931 - 2013م) ما لبثت أن تحوّلت إلى صداقة كانت لها انعكاساتها الفكرية.

عند عودته إلى القاهرة عام 1969م، طلب منه الباز العمل كخبير في وزارة الإرشاد بمكتب الوزير، إبّان المدّة القصيرة التي شغل فيها الموقع محمد حسنين هيكل، فاعتذر بأنه ليس ناصرياً، بل له نقده للناصرية، فردّ عليه الباز نصاً: ((يجب التفريق بين الدولة والحكومة، وإن لم نخدم الدولة المصرية وقعت بيد اللصوص والأفاقين))، وهذا درس لنا جميعاً.

التقى بهيكل وأكّد له عدم ناصريته، فكان ذلك سبباً لتمسّك هيكل به، وبدأت بينهما علاقة فكرية، من محطاتها أنه وافق في العمل معه بصحيفة "الأهرام" لكن بعيداً عن الالتزامات اليومية، وقد جعله هيكل في حلّ منها. وقد جاءت هذه الدعوة بعد أن كتب المسيري أطروحته عن الإدراك الصهيوني وحدوده؛ فقرأها هيكل وذكر له أن غيره لا يمكن له  كتابتها، ما دفع المسيري إلى تدوين دراسة أخرى عن فلسفة التأريخ عند الصهاينة، وجدت أصداء كبيرة عند هيكل، الذي اتصل به وطلب منه العمل معه، ليس في مشاغل "الأهرام" ومتطلبات الكتابة اليومية، بل في "مركز الدراسات السياسية والستراتيجية" بالأهرام، مسؤولاً عن الفكر الصهيوني، وهذا ما كان.


نهاية التأريخ

مشروعان فكريان بارزان تمخّضا عن هذه المرحلة في العمل مع هيكل ومركز الدراسات، الأولى بعنوان "نهاية التأريخ.. مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني"، صدرت عن مركز الدراسات في الأهرام عام 1972م. ثمّ بعد ذلك بسنوات قليلة، تحديداً سنة 1975م، أصدر "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية.. رؤية نقدية". 

يذكر المسيري بألم كبير أنه سبق فرانسيس فوكوياما (أميركي من أصل ياباني، ولد في 1952م) بعقدين في الكتابة عن أطروحة "نهاية التأريخ". بيدَ أن الضجّة والتبجيل انصرفا إلى الأميركي فوكوياما مع نعوت مضخّمة (الفيلسوف، المنظّر الأميركي، العالِم) وأُهمل عمل المسيري تماماً، إذ لا يكاد يعرف الكثير نسبة هذا الكتاب إليه.

إذا أردت أن أستفيد من الأطر المنهجية التي صممها المسيري نفسه ونحت لها مصطلحاتها، فهي تعود باعتقادي إلى ما وصفه بـ"الموضوعية المتلقية" وهي شكل من الموضوعية الزائفة، المنحازة لا شعورياً (وأحياناً شعورياً) إلى مدركات المنهجية الغربية ومركزيتها، بصفتها تعبّر عن معايير الموضوعية على مستوى العالم برمته كما تزعم، ومن ثمّ تتخفى على تحيّزها وانحيازاتها.


لا نهاية للتأريخ

من طرائف تلك المرحلة أنه كتب أثناء حرب تشرين الأول سنة 1973م مقالاً، بعنوان "لا نهاية للتأريخ" محوره أن نظرية الأمن الإسرائيلي تستند إلى إدراك المكان (الحدود الآمنة وخطّ بارليف) دون إدراك الزمان (مقدرة الإنسان على النهوض)، لأن الزمان معطّل في الإدراك الإسرائيلي، ولذلك لم يكن بوسعهم أن يدركوا أن بمقدور الإنسان العربي أن ينهض، ويتجاوز بعبور القناة وتحطيم خطّ بارليف بستّ ساعات، قيود هزيمة حزيران 1967م.

ثمّ كشف على طريقته في التحليل، عن أن غياب عنصر الزمان في الإدراك الإسرائيلي، لا ينبع من الغباء أو الجهل، بل من خوف إسرائيلي عميق من الزمن، إذ لو انفتحوا على المفهوم برحابته التأريخية والإنسانية، لأدركوا يقيناً أن هذا العنصر لا يعمل لصالحهم، لذلك لجؤوا إلى حيلة نفسية، هي التغافل عن الزمن.

منهجياً هذا ما يطلق عليه المسيري، التعامل مع "إسرائيل" والظاهرة الصهيونية من خلال البنية والنمط للكشف عن الأسس الغائرة الخفية، والوصول عبر ذلك إلى الثوابت المتوارية، دون الغرق بالتفاصيل اليومية المتغيّرة. لذلك لم يكن تعليق هيكل غريباً على المقال، وهو يقول في وصفه: "إنه أحسن ما كُتب عن الحرب"، وقد سأل المسيري: "كيف نجحت بينما أخفق في (الجورناليجية)؟ أي (كتّاب الصحف)، فكان جواب المسيري قاسياً بعض الشيء: "لأنني لا أقرأ الصحف اليومية"، (رحلتي الفكرية، ص 507).

وهذا ما تكرّر بشمول وعمق وسعة وبحذافيره، في واقعة "حماس" يوم 7 تشرين الأول الماضي، فمهما كان الحديث عن حجم الضحايا والدمار (وهو كلام واقعي) في الجانب الفلسطيني، أو خطأ الحسابات السياسية (وهو احتمال قائم أيضاً) فإن ذلك كله لن يُسقط عنصر الصدمة والمفاجأة في "إسرائيل"، ويكشف ليس غرورها وهي تبتلع الطُعم وتقع في الفخ مرتين وحسب، بل يؤكد أيضاً صحة تشخيص المسيري، وهو يؤشر إلى غياب عنصر الزمن والوعي التأريخي واستخفافها من ثمّ بالإنسان الفلسطيني، وتجاهل قدرته على المبادأة والفعل، فكانت ضحية هذا الغرور والتسطّح والهبال.


الانتفاضة ونظام الإدراك

أكثر من عشرين كتاباً للمسيري بينها موسوعتان، هي الحصيلة المعرفية لهذا المفكر مع اليهود والصهيونية و"إسرائيل"، ومع ذلك يبقى كتاب "الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية.. دراسة في الإدراك والكرامة"، (القاهرة، 1989م، 229 صفحة من الحجم الكبير) متميّزاً على غيره.

دون ادّعاء أو مبالغة أدركتُ مبكراً  أهمية هذا الكتاب وتميّزه على بقية كتابات المسيري، ساعدني في ذلك أنني قرأته مبكراً وكتبتُ عنه مراجعة نقدية منذ أكثر من ثلاثة عقود (بتأريخ: 21 كانون الأول 1992م) أشرتُ إلى عناصر التميّز فيه، وأبرزها تفسير الانتفاضة على ضوء قابليات الإنسان السرّ، مقابل الإنسان المادّي؛ أي قابليات الإنسان الفلسطيني المتدفقة دائماً وهو منفتح على أنموذجه الإدراكي، مقابل الإنسان الإسرائيلي المنغلق داخل أنموذجه الإدراكي.

في كتاب "الانتفاضة" هاجم المسيري التبعية الإدراكية (شيء قريب بما أسماه السيد محمد باقر الصدر قبل ستة عقود: التبعية في المنهج وطريقة التفكير) ناظراً لتفاقم إشكاليات الهوية والشرعية، والانسجام واختلاف الأثنيات والثقافات، والهجرة والنمو السكاني في أوساط اليهود الصهاينة، متسائلاً بغضب: "كيف يمكن للإحباط واليأس، أن يُنتجا الانتفاضة؟، وهل يمكن منطقياً وموضوعياً لمقدّمات بائسة مثل هذه أن تثمر الانتفاضة؟"، وذلك في جواب تحليلات جاهزة، كانت تذهب إلى أن الانتفاضة هي محض ردّ فعلٍ ميكانيكي أصمّ للتكوين النفسي والشعوري الذي يعيشه الفلسطيني، وهو غارق بالإحباط واليأس.

يقع جسم الكتاب كله في كفّة (11 فصلاً، ص: 9 - 200) والملحق التفسيري (ص: 201 - 227) في كفة أخرى، بما يمثله من ثقل في الثوابت الفكرية، ونحت المصطلحات، وبناء المفاهيم، وتحليل الحوادث وإعادة تركيبها، وأخيراً صياغة نظرية التفسير. لذلك فهو يستحق اهتماماً موازياً لجسم الكتاب، إن لم يفق عليه.

لقد كنتُ أعيش مع هذا الكتاب تميّزه على بقية كتب المسيري، عندما قرأتُ بعد ذلك في سيرته الفكرية انطلاقاً من البذور والجذور إلى الثمر، قوله عنه بالنص: "كتابي عن الانتفاضة.. هو أحبّ كتبي إلى نفسي. يتناول الكتاب ظاهرة الامتلاء الفلسطيني في مقابل أزمة المجتمع الصهيوني... كتاب الانتفاضة هذا، هو أول كتاب أُدرك فيه بشكلٍ واعٍ النماذج التفسيرية كأداة تحليلية، بعد أن كنتُ استخدمها طيلة حياتي بشكلٍ غير واعٍ أو بدون أن أسميها"، ثمّ ينعطف لذكر أبرز المرتكزات المعرفية، لهذا الأنموذج التحليلي (رحلتي الفكرية، ص 527).

أخيراً، قد يلحظ المتابع لمنظومة المسيري الفكرية وكتاباته عن اليهود و"إسرائيل" والصهيونية، أنني لم أشر بكلمة واحدة إلى موسوعته الفذّة، وهي تقع في ثمانية مجلدات.

هذه ملاحظة صحيحة تعود باختصار إلى أنني فعلتُ ذلك عامداً، لكي أخصّص لها وحدها مقالاً مستأنفاً، وهذا أقلّ ما تستحقه، ومن ورائها العلامة الراحل عبد الوهاب المسيري نفسه.