د. زيد البيدر
لا يمكن للعقل ان يستوعب طريقة تفاعل بعض الأنظمة السياسية العربية مع حرب غزة، من خلال اتخاذها مواقف خجولة لا تتناسب مع واجبها الاخلاقي والديني والقومي، مواقف سوف تتناقلها الأجيال، وتضاف إلى سجلها الاسود المليء بالتآمر والخيانة والخذلان، والتي كانت وما زالت سبباً في ما تعيشه المنطقة العربية من ازمات لا سيما في فلسطين والسودان والعراق وسوريا واليمن وليبيا.
فعند تتبع مواقف هذه الدول ومقارنتها بمواقف دول أخرى من خارج المنظومة العربية، لا سيما ايران وتركيا، لوجدنا فرقا شاسعا في المطالب واستخدام المفردات، اذ طالبت الاخيرة بمحاكمة قادة الاحتلال، واعتبرت ممارساته إرهابية وترتقي إلى جرائم الحرب، في حين تختار بعض الدول العربية عباراتها بعناية، حتى لا تغضب دولة الاحتلال، بل سبقتها في ذلك دول اخرى من خارج المنظومة العربية والاسلامية من خلال قيامها باتخاذ خطوات وصلت إلى قطع العلاقات مع دولة الاحتلال أو اصدار بيانات شديدة اللهجة ضد ممارساتها.
فلا يمكن أن تصف كل العبارات الشجب والاستنكار حجم الغضب والألم عند كل من يحمل في قلبه ذرة من الانسانية عند مشاهدة المجازر بحق المدنيين، فما الذي جعل هذه الدول شريكة بهذه الجرائم من خلال صمتها أو تخاذلها أو تأمرها؟.
فاذا كان السبب يرجع إلى علاقة حركة حماس بالنظام الايراني، فإن هذه الدول لم تكن حريصة على تغيير شكل العلاقة باتجاه يجعل التأثير الايراني في حركة حماس يتراجع، لا سيما بعد الأزمة السورية عام 2011، عندما توترت علاقتها بالنظام السوري نتيجة لرفضها استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، أي أصبحت توجهات الحركة أقرب إلى الموقف العربي، وبعيدة عن التوجهات الايرانية الداعمة للنظام السوري، لكن مع ذلك لم ترغب في جعل تأثيرها على حماس يفوق الأطراف الإقليمية والدولية
الأخرى.
واذا كان الأمر يتعلق بحركة حماس ذاتها، سواء من خلال تبنيها المقاومة المسلحة لتحرير الارض أو لأنها تعد امتدادا لحركة الاخوان المسلمين في مصر، فإنَّ الكل يدرك أن الهدف الرئيس للعملية العسكرية، التي ينفذها الاحتلال لا ينحصر بحركة حماس فقط، بل أن أبعادها الحقيقية هي احتلال غزة وتهجير شعبها، وهذا ما ظهر جليا في محاولة دولة الاحتلال وحلفائها جعل صحراء سيناء أرضا بديلة عن سكان غزة، فضلا عن تعمد اسرائيل قتل أكبر عدد لسكان غزة، اذ وصلت اعداد الضحايا إلى اكثر من واحد وعشرين ألف شهيد معظمهم من النساء والاطفال.
واذا تعلق الامر بحماس فما الذي فعلته هذه الدول لسكان الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتي يعد تأثير ونفوذ حركة حماس فيها محدودا للغاية، لكن مع ذلك فإنَّ سكّانها لا يزالون يتعرضون للقتل والاعتقال، فضلا عن سياسة ضم اكبر قدر من الاراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها، اذ وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى اكثر من (800) الف مستوطن.
ويمكن أن يكون تخاذلها نابعاً من اتفاقيات التطبيع الموقعة مع دولة الاحتلال، والتي بموجبها جعلت هذا الدول تدخل في علاقات تعاون وتنسيق في مجالات عدة، منها القضايا الدفاعية، لكن بالمقابل نرى دولا عدة تربطها بدولة الاحتلال علاقات متينة، مثل جنوب افريقيا وكولومبيا وبوليفيا واسبانيا وتركيا، لكنها فعلت ما لم تجرؤ بعض الدول العربية أن تفعله، من خلال قطع علاقتها بدولة الاحتلال أو من خلال إصدار بيانات شديدة اللهجة تجاه الجرائم التي تقوم بها دولة الاحتلال.
وربما تعلق الامر بالضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على هذه الدول لمنعها من التحرك باتجاه يساهم في تعطيل العملية التي تقوم بها دولة الاحتلال، وهذا الأمر أيضا بعيد عن الواقع، اذ تشير الوقائع السابقة إلى أن هذه الدول لم تلتزم بالتحذيرات والمطالب الأمريكية وفي قضايا تعد جوهرية للولايات المتحدة وتمس أمنها القومي، لا سيما قضية الحرب الروسية الأمريكية، التي رفضت هذه البلدان أن تكون طرفا في هذه الحرب، وامتنعت ايضا عن أن تقدم أي شكل من أشكال المساعدات إلى أوكرانيا، وايضا رفضها للتحذيرات الامريكية المتعلقة بايقاف التنسيق والتعاون مع روسيا في مجال تنظيم صادرات النفط في ما يعرف بدول أوبك بلس.
ومن خلال ما سبق تبقى اتفاقيات التطبيع السبب الرئيس، الذي جعل هذه الدول تخشى من نصرة اهلها في غزة حتى بالكلمة، اذ بموجب بنودها تلتزم الولايات المتحدة بالدفاع عن هذه الدول، وان لم تكن على غرار الضمانات الدفاعية الصارمة في حلف شمال الاطلسي، لكنها سوف تكون اشبه باتفاقات سابقة عقدتها الولايات المتحدة مع دول آسيوية، أي بموجبها تكون حليفا رئيسيا خارج حلف شمال الاطلسي مثل ما هي عليه دولة الاحتلال اليوم، لكن في المقابل سوف يترتب عليها التزامات تتعلق بضمان أمن اسرائيل، والدخول في ترتيبات أمنية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تجعلهم أشبه بالحلفاء، وهذا ما جعل هذه الدول تكون شريكا بصمتها وتخاذلها في جرائم الاحتلال ضد المدنيين.
أيًّا كانت الأسباب التي جعلت هذه الدول تتخذ موقفها هذا، فان ذلك لن يعفيها من المسؤولية أمام الله والناس والتاريخ، وسوف تطاردهم في اليقظة والأحلام صور ودماء الضحايا والدمار وصرخات الأطفال والنساء وأنين الجرحى وهم يصارعون الموت.